السبت، 6 فبراير 2010

الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل (اميل حبيبي) : الكتاب الأول


الكتاب الأول : يعاد

(1)

سعيد يدعي التقاء مخلوقات من الفضاء السحيق

كتب إلىّ سعيد أبو النحس المتشائل، قال: أبلغ عني أعجب ما وقع لإنسان منذ عصا موسى، وقيامة عيسى، ‏وانتخاب زوج* الليدي بيرد رئيسًا على الولايات المتحدة الأميركية. ‏
أما بعد، فقد اختفيت. ولكنني لم أمت. ما قتلت على حدود كما توهم ناس منكم، وما انضممت إلى فدائيين كما ‏توجس عارفو فضلي، ولا أنا أتعفن منسيّا في زنزانة كما تقوّل أصحابك. صبرا، صبرا، ولا تتساءل: من سعيد أبو ‏النحس المتشائل هذا? لم ينبه في حياته، فكيف ننبه له? إنني أدرك حطتي، وإنني لست زعيمًا فيحس بي الزعماء، ‏ولكن، يا محترم، أنا هو الندل* ‍! ألم تضحك من الأضحوكة الإسرائيلية عن السبع الذي تسرب إلى مكاتب اللجنة ‏التنفيذية* ? ففي اليوم الأول افترس مدير التنظيم النقابي، فلم ينتبه زملاؤه.. وفي اليوم الثاني افترس مدير الدائرة ‏العربية، فلم يفتقده الباقون. فظل السبع يمرح مطمئنّا ويفترس مريئًا حتى أتى على ندل السُفرة، فأمسكوه أنا الندل، ‏يا محترم، فكيف لم تنتبهوا على اختفائي? لا هم. فالأهم أن اختفائي جاء في أمر عجب ترقبت وقوعه طول العمر. ‏وقعت العجيبة يا معلم، والتقيت مخلوقات هبطت علينا من الفضاء السحيق. وأنا ذا موجود الآن في المعية. وأنا ذا ‏أكتب إليك بسري العجيب هذا، وأنا محلق فوق رؤوسكم. إياك والريبة،
وقولك إن عصر العجائب قد ولّى. فما دهاك، يا معلمي، حتى صرت تعكس الأمور? أما والذين أنا في كنفهم، فإن ‏عصرنا هذا لهو من أعجب العصور، منذ عاد وثمود، إلاّ أننا ألفنا هذه العجائب. فلو قام أسلافنا واستمعوا إلى ‏الراديو، وشاهدوا التلفزيون، ورأوا طائرة الجامبو وهي تهبط في ليل المطار الدامس، تنش وتقصف، لأشركونا. ‏ولكننا تعودنا. فلم نعد نجد في خلع الملوك خارقًا ولا في بقائهم. فبروتس لم يعد أمرًا فذا تكتب الروايات عنه: حتى ‏أنت يا بروتس! ولا تقول العرب: حتى أنت يا بيبرس! وذلك أن السلطان قطز* لم يخرج من فيه سوى حشرجة ‏تركية. وما زال أبو زيد الهلالي يكب على الأيدي تقبيلاً، فلا يتطير السلطان. ‏
لست قطز - يقول الملك. ولا زماني زمان الببرسة يقول: عبده. والقمر أصبح أقرب علينا من تينتنا القمراء* في ‏قريتنا الثكلى. وسلمتم بكل هذه العجائب، فكيف تنكرون عليّ عجيبتي? ‏
مهلاً، مهلاً ولا تتعجل الشرح، يا معلم. كل شيء في وقته يعسل. فاذهب
‏ بسلامتك ولا تماحكني في شكلهم، وفي لباسهم، وفي نظامهم، وفي علومهم.‏
‏ إني أقهقه في وجوهكم: لقد أصبحت أعلم ما لا تعلمون، فكيف لا أتبغدد?‏
أما كيف اختاروني من دون خلق الله أجمعين، فلست متيقنًا أنني الوحيد الذي التقاهم. وحين استنصحتهم في ‏إطلاعك على ما وقع لي، كي يعلم العالم، تبسموا وقالوا: لا بأس. ولكن العالم لن يعلم. وصاحبك لن يصدقك، ‏فليس كل ما يهبط من السماء وحيا. وهذه من عجائبكم!‏
قد لا أكون الوحيد الذي اختاروه. ولكنني، وحقك، مختار من المخاتير. وأنت أيضًا، يا معلم أصبحت مختارًا. فأنا ‏اخترتك لتروي عني أعجب عجيبة، فتمط عجبًا! ‏
كيف اختاروني? لأنني اخترتهم. ظللت طول العمر أبحث عنهم، وأنتظرهم، وأعوذ بهم، حتى لا مندوحة‏
عجيبة? لا بأس. كان أسلافنا في الجاهلية يصنعون آلهتهم من التمر، حتى إذا جاعوا أكلوها. فمن الجاهلي يا معلم، ‏أنا أم أكلة آلهتهم? ‏
ستقول: لأن يأكل الناس آلهتهم خير من أن تأكلهم الآلهة. فأرد عليك: إن آلهتهم كانت من التمر!


*المقصود الرئيس جونسون.‏
‏*الخادم الذي يقدم الطعام والشراب.‏
‏*اللجنة التنفيذية للهستدروت.‏
‏*قطز: السلطان المملوكي الذي وقعت في عهده حادثة عين جالوت بالقرب من الناصرة وهي ‏الواقعة الشهيرة التي اوقفت زحف هولاكو التتري وكان بيبرس قائد هذه الوقعة تحت إمرة ‏قطز فأبلى بلاء حسنا فتوقع أن يقطعه قطز مدينة حلب ولكن قطز خيب امله فتآمر بيبرس ‏وزميل له على حياة قطز فأكب زميله على يد السلطان يقبلها فأهوى بيبرس على عنق ‏السلطان بالسيف فقتله وقعد مكانه وذلك في سنة 1262م.‏
‏* التي يتأخر ايناع ثمرها.

(2)

سعيد يعلن أن حياته في إسرائيل كانت فضلة حمار!‏

لنبدأ من البداية. كانت حياتي كلها عجيبة. والحياة العجيبة لا تنتهي إلاّ بهذه النهاية العجيبة. حين سألت صاحبي ‏الفضائي: كيف آويتموني? قال: هل لديك من بديل? ‏
ففي الحوادث كمنوا لنا وأطلقوا الرصاص علينا. فصرعوا والدي، رحمة الله عليه. أما أنا فوقع بيني وبينهم حمار ‏سائب، فجندلوه. فنفق عوضًا عني. إن حياتي، التي عشتها في إسرائيل بعد، هي فضلة هذه الدابة المسكينة. فكيف ‏علينا أن نقوم حياتي يا أستاذ? ‏
غير أنني أراني إنسانًا فذًا. ألم تقرأ عن كلاب لعقت الماء المشبع بالسم، فماتت، لتنبه أسيادها ولتنقذ حياتهم? وعن ‏الخيول التي فرت بفرسانها الجرحى، تعدو سوابق ريح، فأنفقها الإجهاد بعد أن بلغت بهم مضارب الأمان? أمَّا أنا ‏فأول إنسان، على ما أعهد، أنقذه حمار محرن لا يسابق ريحًا ولا يبغم. فأنا إنسان فذ. وقد يكون الفضائيون ‏اختاروني على ذلك. ‏
علمني، بحياتك، الإنسان الفذ من يكون? أهو الذي يختلف عن الآخرين، أم هو الواحد من هؤلاء الآخرين? ‏
قلت إنك لم تحس بي أبدًا، ذلك أنك بليد الحس يا محترم. فكم من مرة التقيت اسمي في أمهات الصحف? ألم تقرأ ‏عن المئات الذين حبستهم شرطة حيفا في ساحة الحناطير (باريس حاليًا) يوم انفجار البطيخة? كل عربي ساب في ‏حيفا السفلى على الأثر حبسوه، من راجل ومن راكب. وذكرت الصحف أسماء الوجهاء الذي حبسوا سهوًا، ‏وآخرين. ‏
آخرون - هؤلاء أنا। الصحف لا تسهو عني. فكيف تزعم أنك لم تسمع بي? إني إنسان فذ. فلا تستطيع صحيفة ‏ذات اطلاع، وذات مصادر، وذات إعلانات، وذات ذوات، وذات قرون، أن تهملني. إن معشري يملأون البيدر ‏والدسكرة والمخمرة. أنا الآخرون. أنا فذ!

(3)

سعيد ينتسب

إن اسمي، وهو سعيد أبو النحس المتشائل، يطابق رسمي مخلقًا منطقًا وعائلة المتشائل عائلة ‏عريقة نجيبة في بلادنا. يرجع نسبها إلى جارية قبرصية من حلب لم يجد تيمورلنك لرأسها ‏مكانًا في هرم الجماجم المحزوزة، مع أن قاعدته كانت عشرين ألف ذراع وعلوه كان عشر ‏أذرع، فأرسلها مع أحد قواده إلى بغداد لتغتسل فتنتظر عودته. فاستغفلته. (ويقال - وهذا سر ‏عائلي - إن ذلك كان السبب في المذبحة المشهورة). وفرت مع أعرابي من عرب التويسات، ‏اسمه أبجر، الذي قال فيه الشاعر: ‏
يا أبجر بن أبجر يا أنتَ أنت الذي طلقت عام جُعْتَ ‏
فطلقها حين وجدها تخونه مع الرغيف بن أبي عمرة *، من غور الجفتلك، الذي طلقها في بير ‏السبع. وظل جدودنا يطلقون جداتنا حتى حطت بنا الرحال في بسيط من الأرض أفيح متصل ‏بسيف البحر، قيل إنه عكاء، فإلى حيفاء على الشاطئ المقابل من البسيط. وبقينا مطلاقين حتى ‏قامت الدولة. ‏
وبعد النحس الأول، في سنة 1948، تبعثر أولاد عائلتنا أيدي عرب، واستوطنوا جميع بلاد ‏العرب التي لما يجر احتلالها. فلي ذوو قربى يعملون في بلاط آل رابع في ديوان الترجمة من ‏الفارسية وإلىها. وواحد تخصص بإشعال السجائر لعاهل آخر، وكان منا نقيب في سوريا، ‏ومهيب في العراق، وعماد في لبنان. إلاّ ‏
أنه مات بالسكتة يوم إفلاس بنك أنترا. وأول عربي عينته حكومة إسرائيل رئيسًا على لجنة ‏تسويق العلت والخبيزة في الجليل الأعلى هو من أبناء عائلتنا، على أن والدته، كما يقال، هي ‏شركسية مطلقة. وما زال، عبثًا، يطالب بالجليل الأدنى. ووالدي، رحمه الله، كانت له أياد ‏على الدولة قبل قيامها. وخدماته هذه يعرفها تفصيلاً صديقه الصدوق ضابط البوليس المتقاعد، ‏الأدون سفسارشك. ‏
ولما استشهد والدي، على قارعة الطريق، وأنقذني الحمار، ركبنا البحر إلى عكا. فلما وجدنا ‏أن لا خطر علينا، وأن الناس لاهون بجلودهم، نجونا بجلودنا إلى لبنان حيث بعناها ‏واسترزقنا. ‏
فلما لم يعد لدينا ما نبيعه، تذكرت ما أوصاني به والدي وهو يلفظ أنفاسه على قارعة الطريق. ‏قال: رح إلى الخواجة سفسارشك، وقل له: والدي، قبل استشهاده، سلم عليك، وقال: دبرني! ‏فدبرني. ‏

*أبي عمرة:كنية الجوع

(4)

سعيد يدخل إسرائيل لأول مرة

قطعت الحدود في سيارة دكتور من جيش الإنقاذ كان يغازل أختي في عيادته في وادي ‏الصليب في حيفا. فلما رحلنا إلى صور وجدناه في استقبالنا. فلما بدأت أرتاب في الأمر تحول ‏إلى أعز أصحابي. فاستذوقتني زوجه. فسألني: هل تحفظ السر? قلت: مثل نجم فوق عاشقين. ‏قال: فأمسك لسانك إنها فروط. فأمسكت. ‏
فلما كشفت له عن رغبتي في التسلل إلى إسرائيل، تبرع بحملي في سيارته. وقال: أفضل لك. ‏قلت: ولك. فقال: على بركة الله. وباركتنا الوالدة. ‏
بلغنا ترشيحا حين كانت الشمس والأهالي تهجرها. فاستوقفنا الحرس. فأظهر الدكتور بطاقته ‏فحيونا، وكنت مذعورًا. فضحك الدكتور وشتمهم فشتموه وضحكوا. ‏
وبتنا في معليا حتى استيقظت قبل الفجر على همس صادر عن سرير الدكتور إلى جانبي. ‏فحبست أنفاسي. فتبينت صوتًا يهمس أن زوجها لا يستيقظ الساعة. فقلت: لا يمكن أن تكون ‏هذه أختي، فأختي لا زوج لها حتى الآن. فنمت مطمئنًا. ‏
وتغدينا في بيت والدها في أبو سنان، وكانت في ذلك الوقت أرضًا حرامًا، أي لا يطرقها ‏سوى الجواسيس وتجار الغنم والحمير السائبة. ‏
واكتروا لي دابة هبطت على ظهرها إلى كفرياسيف.. وكان ذلك في صيف عام .1948 ‏وعلى ظهر الجحش من أبو سنان إلى كفرياسيف احتفلت بصيفي الرابع والعشرين. ‏
وأرشدوني إلى مقر الحاكم العسكري. فدخلته راكبًا على جحش بن أتان. وكانت على عتبته ‏ثلاث درجات صعدتها الدابة في خيلاء. ‏
فتدافع العسكر نحوي، مذهولين। فصحت: سفسارشك، سفسارشك! فانطلق نحوي عسكري ‏سمين। وصرخ: أنا الحاكم العسكري، وانزل عن الحمار. قلت: أنا فلان بن فلان، ولا أنزل ‏إلاّ على عتبة الخواجا سفسارشك. فشتمني، فصحت: أنا طنيب على الخواجا سفسارشك. فشتم ‏الخواجا سفسارشك. فنزلت عن الحمار.

(5)

بحْث في أصْل المتشائل ‏

لما نزلت عن الحمار رأيتني أطول قامة من الحاكم العسكري فاطمأنت نفسي حين وجدتني أطول قامة منه ‏بدون قوائم الحمار. فارتحت على مقعد من مقاعد المدرسة التي حولوها إلى مقر الحاكم وحولوا ألواحها إلى ‏طاولة بنغ بونغ. ‏
شعرت بالاطمئنان وحمدته على أنني أطول قامة من الحاكم العسكري بدون قوائم الحمار. ‏
هذه هي شيمة عائلتنا. ولذلك سميت بعائلة المتشائل. فالمتشائل هي نحت كلمتىن اختلطتا على جميع أفراد ‏عائلتنا منذ مطلقتنا القبرصية الأولي. وهاتان الكلمتان هما المتشائم والمتفائل. فدعينا بعائلة المتشائل. ويقال إن ‏أول من أطلقها علينا هو تيمورلنك نفسه بعد مذبحة بغداد الثانية. وذلك لما وشوا بجدي الأكبر، أبجر بن أبجر، ‏وأنه، وهو على متن فرسه خارج أسوار المدينة، التفت فشاهد ألسنة اللهب، فهتف: بعدي خراب بصرى! ‏
خذني أنا مثلاً، فإنني لا أميز التشاؤم عن التفاؤل. فأسأل نفسي: من أنا? أمتشائم أنا أم متفائل? ‏
أقوم في الصباح من نومي فأحمده على أنه لم يقبضني في المنام. فإذا أصابني مكروه في يومي أحمده على أن الأكره ‏منه لم يقع، فأيهما أنا: المتشائم أم المتفائل? ‏
ووالدتي من عائلة المتشائل أيضًا. وكان أخي البكر يعمل في ميناء حيفا. فهبت عاصفة اقتلعت الونش الذي ‏كان يقوده وألقته معه في البحر فوق الصخور، فلموه وأعادوه إلىنا إربًا إربًا، لا رأس ولا أحشاء. وكان ‏عروسًا ابن شهره. فقعدت عروسه تولول وتندب حظها. وقعدت والدتي تبكي معها صمتًا. ثم إذا بوالدتي ‏تستشيط وتضرب كفا بكف وتبح قائلة: (مليح أن صار هكذا وما صار غير شكل)! فما ذهل أحد سوى ‏العروس، التي لم تكن من العائلة فلا تعي الحكم. ففقدت رشدها، وأخذت تعول في وجه والدتي: أي غير شكل ‏يا عجوز النحس (هذا اسم والدي، رحمه الله): أي شكل بعد هذا الشكل يمكن أن يكون أسوأ منه? ‏
ولم يرق والدتي نزق الشباب. فأجابتها بهدوء، وكأنها تقرأ في المندل: أن (تخطفي) في حياته يا بنية - أي أن تهربي ‏مع رجل آخر. علمًا بأن والدتي تحفظ شجرة العائلة عن ظهر قلب. ‏
والحقيقة أنها هربت، بعد سنتين، مع رجل آخر. فكان عاقرًا. فلما سمعت الوالدة أنه عاقر، رددت لازمتها: ‏فلماذا لا نحمده? ‏
فأيهم نحن: المتشائمون أم المتفائلون?

(6)

كيف شارك سعيد في حرب الاستقلال لأول مرة

ولنعد، يا محترم، إلى مقر الحاكم العسكري الذي، ما أن شتم الأدون سفسارشك حتى نزلت عن الحمار. ‏فسرعان ما تبين لي أن الشتم لا يدل على استهانة الشاتم بالمشتوم، بل يدل، أحيانًا، على الغيرة. ‏
فما أن قعدت على المقعد راضيًا عن أن قامتى أطول من قامة الحاكم العسكري، حتى بدون قوائم الدابة، حتى ‏هرع هذا الأخير، أي الحاكم العسكري، إلى التلفون ورطن فيه ببعض كلام لم أفهم منه سوى اسمين ارتبطا بي ‏فيما بعد زمنًا طويلاً: أبي النحس وسفسارشك. ثم ألقاه، وصاح في وجهي أن قم. فقمت. ‏
قال: أنا أبو إسحق، فاتبعني. فتبعته إلى سيارة جيب أوقفوها بقرب العتبة وحماري يتمخط إلى جانبها. قال: ‏لنركب. فاعتلى سيارته واعتليت جحشي. فزعق، فانتفضنا، فوقعت عن ظهر الحمار، فوجدتني بقربه، أي ‏بقرب الحاكم العسكري في السيارة التي توجهت بنا غربًا في طريق ترابي بين أعواد السمسم. قلت: إلى أين? ‏قال: عكا، وانكتم. فانكتمت. ‏
وما أن مرت بضع دقائق حتى أوقف الجيب فجأة، وانطلق منه كالسهم، وقد أشرع مسدسه. ثم اخترق أعواد ‏السمسم وكشفها ببطنه، فإذا بامرأة قروية مقرفصة ووليدها في حجرها وقد رأرأت عيناه. ‏
فصاح: من أية قرية? ‏
فظلت الأم مقرفصة تطل عليه بنظرات شاخصة مع أنه كان واقفًا فوقها كالطود. ‏
فصاح: من البروة? ‏
فلم تجبه بعينيها الشاخصتين. ‏
فصوب مسدسه نحو صدغ الولد، وصاح: أجيبي أو أفرغه فيه. ‏

فانكمشت تأهبًا للانقضاض عليه، وليكن ما يكون. ففي عروقي تجري دماء الشباب الحارة، أنا ابن الرابعة ‏والعشرين، وحتى الصخر لا يطيق هذا المنظر. غير أني تذكرت وصية أبي وبركة والدتي. فقلت في نفسي: سأثور ‏عليه إذا ما أطلق الرصاص. ولكنه يهددها فحسب. فبقيت منكمشًا. ‏
وأما المرأة، فقد أجابته هذه المرة: نعم من البروة. ‏
فصرخ: أعائدة أنت إليها? ‏
فأجابته: نعم عائدة. ‏
فصرخ: ألم أنذركم أن من يعود إلىها يقتل? ألا تفهمون النظام? أتحسبونها فوضى? قومي اجري أمامي عائدة ‏إلى أي مكان شرقًا. وإذا رأيتك مرة ثانية على هذا الدرب، فلن أوفرك. ‏
فقامت المرأة، وقبضت على يد ولدها وتوجهت شرقًا دون أن تلتفت وراءها. وسار ولدها معها دون أن يلتفت ‏وراءه. ‏
وهنا لاحظت أولى الظواهر الخارقة التي توالت علي فيما بعد حتى التقيت، أخيرًا، صحبي الفضائيين. فكلما ‏ابتعدت المرأة وولدها عن مكاننا، الحاكم على الأرض وأنا في الجيب، ازدادا طولاً حتى اختلطا بظليهما في ‏الشمس الغاربة، فصارا أطول من سهل عكا. فظل الحاكم واقفًا ينتظر اختفاءهما، وظللت أنا قاعدًا أنكمش، ‏حتى تساءل مذهولاً: متى يغيبان? ‏
إلا أن هذا السؤال لم يكن موجهًا إلىّ. ‏
والبروة هذه هي قرية الشاعر* الذي قال، بعد 15 سنة: ‏
‏((أهنئ الجلاد منتصرًا على عين كحيلة
‏ مرحى لفاتح قرية، مرحى لسفاح الطفولة) )‏
فهل كان هو الولد? وهل ظل يمشي شرقًا بعد أن فك يده من قبضة أمه وتركها في الظل? ‏
لماذا أروي لك، يا معلم، هذه الحادثة التافهة? ‏
لعدة أسباب منها: ظاهرة نمو الأجسام كلما ابتعدت عن أنظارنا. ‏
ومنها أنها برهان آخر على أن اسم عائلتنا العريقة هو اسم له هيبته في قلوب رجالات الدولة. فلولا هذه الهيبة ‏لأفرغ الحاكم مسدسه في رأسي، وقد شاهدني منكمشًا تأهبًا. ‏
ومنها: أني شعرت، لأول مرة، أنني أكمل رسالة والدي، رحمه الله، وأخدم الدولة، بعد قيامها على الأقل. ‏فلماذا لا أتبحبح مع الحاكم العسكري? ‏
وتبحبحت، فسألته: سيارتك هذه، من أي موديل? ‏
فقال: انكتم. ‏
فانكتمت. ‏
فشاعر البروة، السالف الذكر، قال: ‏
‏(نحن أدرى بالشياطين التي
‏ تجعل من طفل نبيا) ‏
ولم يدر، إلاّ أخيرًا، بأن هذه الشياطين نفسها تجعل من طفل آخر نسيًا منسيًّا.

*محمود درويش‏

(7)

ورود ذِكْر (يُعاد) لأول مرة

استقبلتنا عكا، حين دخلناها، وقد التفت بعباءة الليل العباسية. فتذكرت صاحبتي (يُعاد)، التي لم تبتسم في ‏القطار لسواي، فتسارع وجيب الفؤاد. ‏
فعكا، التي صمدت للصليبيين أطول مما صمد غيرها من الحواضر، وردت نابليون، ولم يدخلها التتار. حافظت ‏على هيبتها بعد أن هرمت وشاخت وأصبح سورها محششة، ومنارها مثل قنديل جحا.. فظلت القصبة حتى بعد ‏أن تصنعت حيفا واستشببت. وظلت مدرستها الثانوية، في الغرف الكلينية على كتف السور الشرقي، أعلى ‏صفوفًا من مدرسة حيفا الثانوية. فانتقلنا إلى (مدرسة الفرقة)* في عكا، ذهابًا وإيابًا يوميًا في القطار. وفي القطار ‏التقينا صاحبتي (يعاد) الحيفاوية التي كانت مثلنا تتأبط مزودتها، وتتعلم في مدرسة البنات العكية، وتعود معنا. ‏إلاّ أنها كانت تنزوي في المقصورة الوحيدة في القطار، تدخلها وقد أسدلت إيهابها، وتخرج منها على هذه الحال. ‏فسارقتني النظر بعينيها الخضراوين من باب المقصورة المشقوق، فعلقتها. فنادتني ذات صباح أن أفسر لها كلمة ‏بالإنجليزية. فلما عجزت عنها فسرتها لي، وقالت: اقعد. فصرت أقعد معها في الذهاب وفي العودة. فأحببتها حبًا ‏جمًا. فقالت إنها أحبتني لأنني خفيف الظل وضحكتي عالية. ‏
ولكن غيرة زميل من زملائي جعلتني أبكي بدون صوت. ‏
فقد وشى بي إلى مدير مدرستها، الذي أحال كتابه إلى مدير مدرستنا، فاستدعى جميع طلاب حيفا القطاريين. ‏وهاج وماج، ثم قال: حيفا عكا بحر، بينهما بحر. ما يجوز في حيفا لا يجوز في عكا. هذه مدينة محافظة منذ أيام ‏صلاح الدين. ‏
فتذكرت المغفور له الرحالة أبا الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني، الأندلسي، الشاطبي، البلنسي، الذي بات ‏ليلتين في خان عكاوي، في زمن صلاح الدين، فكتب عنها أنها (تستعر كفرًا وطغيانًا)، وأنها (مملوءة كلها رجسًا ‏وعذرة). وكان جدي لأبي، رحمهما الله، الذي (خطفت) امرأته الأولى، يعلمنا منذ الصغر قائلاً: فعلت ذلك ‏لأنها من عكاء. وكان يمطها توكيدًا. ‏
فتنطحت للمدير وصحت في وجهه همسًا: ولكنها ليست من عكاء! ‏
فطردنا من مكتبه، وكتب إلى أهلها. فأرسلوا من ضربني في المحطة. فازددت هيامًا بها. فضربت زميلي الذي ‏وشى بنا. فوقعنا من القطار على رمل الشاطئ فلم نتأذ. وعدنا إلى حيفا مشيًا على الأقدام بعد أن اغتسلنا في ‏البحر. وأطعمنا الغوارنة خبز صاج بالزيت وبالملح وسرقوا المزودتين.. فرجعنا أعز الصحاب حتى يومنا هذا. ‏
وأما (يعاد)، التي لم تعد إلى القطار منذ كتاب المدير إلى أهلها، فلم أعثر لها على أثر. ولكن قلبي ظل مجروحًا ‏بحبها. ‏
فلما دخلنا عمارة الشرطة، على الشاطئ الغربي، وسلمني الحاكم إلى أحد ضباطها، أمرني: عد في الصباح ‏لأنقلك إلى حيفا. ثم استدرك: فأين ستقضي ليلتك هنا? قلت: (يعاد)! فصاح الضابط: هل أنت أطرش? وأعاد ‏على مسامعي تعليماته. قلت: لا أعرف أحدًا هنا سوى مدير المدرسة، فلان الفلاني. ‏
فتشاورا، ثم قال الحاكم للضابط: احمله إلى جامع الجزار। فحملني بجيبه. حتى إذا وصلنا إلى سبيل الطاسات ‏أوقف سيارته فترجلنا وقرع باب المسجد بمطرقة الباب التاريخية. فسمعنا لغطا ثم انحبس॥ ثم سمعنا بكاء طفل ثم ‏انكتم، فوقع أقدام تتجرجر. ثم انفتح الباب عن شيخ هرم، نحيل، في ثوب هدم، وهو يؤهل. فأمر الضابط: هذا ‏واحد آخر عليه أن يثبت وجوده في المركز صباحًا. فقال الشيخ: ادخل يا ابني. فدخلت. فلما أمعنت النظر في ‏وجهه عرفت فيه مدير المدرسة. فهتفت: آه يا معلمي، إن والدي رحمه الله، قد أوصاك بي خيرًا. فقال: إن ‏خيري كثير يا ولدي، ادخل فَتَره!!

*هي مدرسة عكا الثانوية قبل قيام الدولة، سميت بهذا الاسم لأنها كانت مركز الحامية التركية في عكا।‏

(8)

جلسة ليلية عجيبة في فناء جامع الجزار

صفق معلمي براحتيه ثلاثًا، ثم قال مخاطبًا الظلام في فناء المسجد: عودوا إلى شؤونكم يا قوم، فهذا واحد منا. ‏
فإذا باللغط المحبوس ينفلت. وتنشال الأكف عن أفواه الأطفال المنكتمة. وأرى أشباحًا تتقدم نحونا من غرف ‏المدرسة الأحمدية التي تحيط بالفناء الرحب من أطرافه الثلاثة، الشرقي والشمالي والغربي، فتتحلقنا، وتقرفص بعد ‏أن تطرح السلام، فعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فتستفهم عني. ‏
قلت: إني عائد من لبنان. ‏
فإذا بهرج وبمرج. ‏
فصاح معلمي: هذا ولدنا يا جماعة. فإذا عاد، عاد الآخرون. ‏
فسأل سائل: هل عدت متسللاً? ‏
فلم أشأ أن أحدثهم عن الدكتور عشيق أختي، ولا عن الدابة، ولا عن الأدون سفسارشك، فقلت: نعم. ‏
‏- فسيطردونك الليلة. ‏
قلت: إن لوالدي، الذي أعطاكم عمره، صديقًا من كبارهم، اسمه الأدون سفسارشك. ‏
فعاد الصخب. وعاد معلمي يطمئنهم: إن هو إلاّ صبي لم يبلغ الحلم. مع أن الليلة هي ليلة ميلادي الرابع ‏والعشرين. وكنت في حلم حقًا. ‏
وشكرت معلمي على أنه لم يدَّع أنني صبيه كي ينقذني من غضبهم، الذي لم أدرك له سببًا. ‏
حتى أنسوا بي، فأمطروني بالأسئلة عن شظايا أهلهم الذين التجأوا إلى لبنان. ‏
‏- نحن من الكويكات، التي هدموها وشردوا أهلها، فهل التقيت أحدًا من الكويكات? ‏
فأعجبني ترديد الكاف في الكويكات. فعاجلت ضحكتي قبل أن تنطلق، لولا صوت امرأة جاء من وراء المزولة ‏غربًا: ‏
‏- البنت ليست نائمة يا شكرية، البنت ميتة يا شكرية. ‏
ثم تناهت إلىنا صرخة مخنوقة، فاختنقت أنفاس الجمع حتى انحبست الصرخة. فعادوا إلى استجوابي. فقلت: لا. ‏
‏- أنا من المنشية. لم يبق فيها حجر على حجر، سوى القبور. فهل تعرف أحدًا من المنشية? ‏
‏- لا. ‏
‏- نحن هنا من عمقا، ولقد حرثوها، ودلقوا زيتها. فهل تعرف أحدًا من عمقا? ‏
‏- لا. ‏
‏- نحن هنا من البروة. لقد طردونا وهدموها، هل تعرف أحدًا من البروة? ‏
‏- أعرف امرأة كانت مختبئة مع طفلها بين أعواد السمسم. ‏
فسمعت أصواتًا كثيرة تحدس أيهن تكون هذه المرأة، فعدوا أكثر من عشرين أم فلان حتى صاح كهل من ‏بينهم: كفوا! إنها أم البروة، فحسبها وحسبنا. فكفوا. ‏
ثم عادت الأصوات تنتسب في عناد، مع أن قراها، كما فهمت، قد درستها العسكر: ‏
‏- نحن من الرويس. ‏
‏- نحن من الحدثة. ‏
‏- نحن من الدامون. ‏
‏- نحن من المزرعة. ‏
‏- نحن من شعب. ‏
‏- نحن من ميعار. ‏
‏- نحن من وعرة السريس. ‏
‏- نحن من الزيب. ‏
‏- نحن من البصة. ‏
‏- نحن من الكابري. ‏
‏- نحن من أقرت. ‏
ولا تنتظر مني يا محترم، بعد هذا الوقت الطويل أن أتذكر جميع القرى الدارسة، التي انتسبت إلىها الأشباح في ‏باحة جامع الجزار. هذا مع العلم بأننا نحن، أولاد حيفا، كنا نعرف عن قرى سكوتلندة أكثر مما كنا نعرف عن ‏قرى الجليل. فأكثر هذه القرى لم أسمع به إلاّ تلك الليلة. ‏
لا تلمني، يا محترم، بل لم أصحابك. ألم يكتب شاعركم الجليلي : ‏
‏(سأحفر رقم كل قسيمة ‏
من أرضنا سلبت ‏
وموقع قريتي، وحدودها ‏
وبيوت أهليها التي نسفت ‏
وأشجاري التي اقتلعت ‏
وكل زهيرة برية سحقت ‏
لكي أذكر ‏
سأبقى دائمًا أحفر ‏
جميع فصول مأساتي
وكل مراحل النكبة ‏
من الحبة ‏
إلى القبة ‏
فإلى متى يظل يحفر وتظل سنُو النسيان تعبر وتمحو? ومتى سيقرأ لنا المكتوب على الزيتونة? وهل بقيت زيتونة ‏في ساحة الدار? ‏
فلما لم يتلقوا مني أجوبة شافية، وأدركوا أنني لا أعرف من عباد الله سوى أهلي والأدون سفسارشك، انفضوا ‏من حولي وعادوا إلى زواياهم। فبقيت مع معلمي.‏

(9)

الإشارة الأولي من الفضاء السحيق

فلما انفض السامر، وبقيت وحدي مع معلمي، الذي أنقذني من غضب الأشباح، شعرت بالامتنان، وبرغبتي في ‏التعبير عنه. كان معلمي هذا، كما تذكر يا محترم، هو السبب في انقطاع صلتي بـ (يعاد)، ذات العينين ‏الخضراوين. ولكن قلبي كبير. فقلت له: إنني مسرور بأن أبيت في كنفه ليلتي الأولي في هذه الدولة الجديدة. ‏فهو، بعد الأدون سفسارشك، وصية أبي. فماذا تفعل هنا يا معلمي? ‏
قال: أجمع الشمل. ‏
ثم قال: والحقيقة، يا ولدي أنهم ليسوا أسوأ من غيرهم في التاريخ. ‏
فهززت رأسي استحسانًا. ‏
فقال: حقًا إنهم هدموا القرى التي ذكرها القوم، وشردوا أهلها. ولكن، يا ولدي، إن في قلوبهم لرأفة لم يحظ بها ‏أجدادنا من الغزاة الذين سبقوهم. ‏
خذ لك عكا هذه مثلاً. فحين افتتحها الصليبيون في سنة 1104، بعد حصار دام ثلاثة أسابيع، ذبحوا أهلها ‏ونهبوا أموالهم. ‏
وبقيت في أيديهم 83 عامًا حتى حررها صلاح الدين بعد وقعة حطين التي علمتكم عنها في المدرسة. ‏
ثم عاد الصليبيون فحاصروا عكا مدة سنتين كاملتين، من آب 1189 حتى تموز 1191، فأكره الجوع أهلها ‏على الاستسلام بشروط قاسية. فلما لم يستطيعوا إيفاءها أمر ملكهم ريتشارد ليون هارت (يعني قلب الأسد) ‏بذبح 2600 رأس من رؤوس الرهائن الآدمية. وظلت عكا في أيديهم قرنًا كاملاً، مئة عام من الزمن يا بني، ‏حتى حررها القائد المملوكي قلاوون، سنة .1291 وكان لقبه العسكري هو (الألفي)، تقديرًا للثمن الباهظ ‏الذي دفع فيه، وهو ألف دينار. ‏
فأردت أن أثبت له أنني لا أزال من طلابه النجباء، فسألته: ‏
‏- فهل رتبة (الألوف) من جنرالاتهم الآن، يا معلمي، منحوتة من هذا المعني? ‏
‏- حاشاوكلا يا بني. بل تعود إلى قائد الألف في التوراة. هؤلاء ليسوا مماليك، وليسوا صليبيين، بل عائدون إلى ‏وطنهم بعد غيبة ألفي سنة. ‏
‏- ما أقوى ذاكرتهم! ‏
‏- على كل حال، يا بني، ظل الحديث يجري، منذ ألفي سنة، على الألوف، قادة ألفيون، أو ألوفيون، وقتلى ‏بالألوف. ليس هناك على الأرض أقدس من دم الإنسان، يا بني، ولذلك سميت بلادنا بالمقدسة. ‏
‏- ومدينتي حيفا، أيضًا، مقدسة? ‏
‏- كل مكان في بلادنا قد تقدس بدماء المذبوحين، ويظل يتقدس يا بني. ومدينتك حيفا لا تختلف عن بقية مدننا ‏المقدسة. فبعد أن اكتسح الصليبيون مدينة القدس المقدسة، عليها السلام، في سنة 1099، وكتب ملكهم ‏جوتفريد في رسالته إلى البابا متباهيًا بأن (أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل كانت ترى في ساحات المدينة ‏وطرقاتها)، وبأنه في مسجد عمر، رضي الله عنه، حيث التجأ المسلمون (وصلت الدماء إلى ركب الخيل)، ذهبوا ‏وافتتحوا حيفا بعد أن حاصرها أسطول البندقية شهرًا. فذبحوا أهليها عن بكرة أبيهم، رجالاً ونساء وأولادًا. ‏
فحيفا ليست مدينة جديدة يا بني، إلاّ أنه بعد كل مذبحة، لم يبق فيها من يخبر الذرية بأصلها. ‏
‏- فلماذا لم تعلمونا عن هذه القدسية يا معلمي? ‏
‏- من حق الإنجليز أن يتباهوا بتاريخهم، يا ولدي. وخصوصًا بملكهم العظيم ليون هارت. وبدون أن نعلمكم ‏هذه الأمور شاركوا هم أيضًا، بدمائنا، في عملية تقديس بلادنا. والتاريخ يا بني، لا يصح في عيون الغزاة إلا ‏بتزوير التاريخ. ‏
‏- فهل سيسمحون لنا، يا معلمي، بدراسة هذا التاريخ بعد أن جلا الغزاة ونالت البلاد استقلالها? ‏
‏- انتظر فتر. ‏
‏- وهل يدخلون جامع الجزار كما دخل الصليبيون مسجد عمر? ‏

‏- حاشاوكلا يا بني، بل يقرعون الباب فنخرج نحن إليهم إنهم لا يدنسون حرمة دور العبادة، بل إن لهم في ‏خارجها، متسعًا لهذا الأمر. ‏
وما أن أكمل معلمي كلامه المطمئن هذا، حتى سمعنا قرعًا شديدًا على الباب. فقال معلمي: لقد جاءوا. ‏
فقلت: ربما جاء الأدون سفسارشك من حيفا ليستفسر عن حالي. ‏
ولكن معلمي كان قد بلغ الباب. وكانت الأشباح قد استيقظت، وأخذت تحوم في فناء الجامع على غير هدى. ‏
وحبسنا أنفاسنا ونحن نستمع إلى الأمر بأن الجيش قرر أن يعيد اللاجئين، الملتجئين في كنف المسجد، إلى قراهم ‏الأصلية حالاً. ‏
فهمس شبح إلى جانبي: فلماذا لا ينتظرون حتى الصباح? ‏
فأدهشني هذا السؤال، وقلت: خير البر عاجله. ‏
فصاح الآمر: سعيد أبو النحس يبقى وحده مع المعلم، وجميع الآخرين ليخرجوا! ‏
فتحققت كلام معلمي أنهم ليسوا أسوأ من الملك ليون هارت. ‏
وانسلت شكرية، التي ماتت ابنتها، من الباب الشرقي وهي تحمل طفلتها على يديها. وقبل أن تغيب في السوق ‏العتم سألتها: إلى أين? قالت: في الصباح ادفنها في عكا وأتوكل. ‏
وانسل آخرون من الباب الجنوبي ليضيعوا في أزقة عكا القديمة. فسألت: لماذا? فقالوا: ما عندنا أدون ‏سفسارشك، والذي هدم قرانا لا يعيدنا إليها. ‏
وأما الباقون فحملوا خرقهم، وأولادهم، وخرجوا من الباب الشمالي الكبير حيث حملوا في سيارات ضخمة ‏حملتهم، كما أخبرني معلمي فيما بعد، إلى الحدود، حيث ألقتهم شمالاً، وتوكلت. ‏
فعاد معلمي واتكأ حيث كنت متكئًا على المزولة وقد زاولني القلق. وقال: قم الآن ونم، لقد فرغت الليلة ‏جعبتي. ‏
ولكنني لم أنم. ‏
ففي تلك الليلة، في ساعة الفجر الكاذب، شاهدت الإشارة الأولى من الفضاء السحيق।‏

(10)

سعيد يفشي بسرّ عجيب من أسرار العائلة

أَرِقْت، لا لأنني كنت مضطربًا، بل لأنني كنت مبهورًا بطالعي الحسن. فها أنا ذا أعود إلى أرض الوطن متسللاً، ‏فلا ينالني سوء، مع أن شعبي كله يهيم على وجهه مشردًا، فإذا لم يهم، هيَّموه. ‏
إلاّ أنا. أتسلل في سيارة الدكتور عشيق أختي، فيبقى عفاف أختي مصونًا بفضل زوجة مضيفنا في معليا، فأنتقل ‏من السيارة إلى الدابة، ومن الدابة إلى الجيب. وفي الطريق إلى عكا أنجو من الموت الأكيد بفضل انكماشي الذي ‏جاء في وقته. فألتجئ إلى جامع الجزار في كنف معلمي الذي عفوت عنه، فيأتي العسكر ويقذفون بالأشباح، ‏وبأطفال الأشباح، إلى ما وراء الخطوط، سوى سعيد أبي النحس المتشائل، فكيف لا أشعر بأن هذه الليلة هي ‏ليلة سعدي? ‏
لا يمكن أن يكون الأدون سفسارشك هو سبب كل هذا السعد. هل هو خاتم شبيك لبيك? أو هو قنديل علاء ‏الدين? إن في الأمر لسرًا خارجًا عن قدرة البشر. ‏
فقررت أن أخرج لأكشفه. وقبل أن أخرج. عفوًا يا أستاذ. بل قبل أن أروي لك ما جرى لي بعد خروجي، من ‏الضروري أن أعرّفك بخصلة أصيلة أخرى من خصال عائلتنا العريقة، بالإضافة إلى التشاؤل، وإلى أننا مطلاقون. ‏
كان والدي، حين استشهد، يستشفّ الأرض تحته. فلم يكشف الكمين الذي كمن له وأودي بحياته. ووالده، ‏من قبله، شجَّ رأسه بحجر الطاحون لأنه كان ينظر في الأرض بين قدميه، فلم يقم بعدها. ‏
فهذه هي شيمة عائلتنا النَّجيبة، أن نظل نبحث تحت أقدامنا عن مال سقط سهوًا من صرَّة عابر سبيل لعلنا ‏نهتدي إلى كنز يبدل حالنا الرتيبة تبديلاً. ‏
وثقْ، يا محترم، بأنه ما من عجوز، في طول بلاد العرب وعرضها، يسبق رأسها بقية جسمها إلى القبر، وتدب ‏مقوسة مثل رقم ‏‎8‎‏ ، إلاّ ولها صلة قربى بنا. وما من شاب ينصب الفخاخ لالتقاط نشرات الأخبار الإذاعية، لا ‏يبقي محطة ولا يذر، مثل صياد السمك الذي يلقي بصنانيره لعل السمكة الذهبية تعلق بإحداها، إلاّ ويكون ابن ‏عم أو ابن خال.‏

ولكن، يجب ألاّ تفهم من هذا الكلام أن جدودنا لم ينتهوا إلاّ برؤوس مهشمة. بل لقينا أموالاً ضائعة كثيرة، ‏جيلاً بعد جيل، فلم تبدل شيئًا من حياتنا الرتيبة. ‏
ومن أسرار العائلة أنه في زمن خروج الأتراك ودخول الإنجليز، خرج عمي لجدي من بيته في القرية الفلانية - ‏نحن، مثل الماسون، لا يمكن أن نفشي أسرارنا العائلية - وكان ينظر إلى أسفل كعادتنا. فاصطدم رأسه بحجر في ‏بيت خراب. وكانت جمجمته صلبة. فتدحرج الحجر من مكانه. فانكشفت أمامه هوة تغضنت في سفحها ‏درجات هبط عليها، فإذا بظلام خفاش. فقدح زناد فكره، فقدح زناده، فاستضاء. فرأى لحودًا رخامية أخذ ‏يفتحها فإذا فيها جماجم وبقية عظام، وغاليات ذهبية دسها في دكة سرواله، حتى فتح لحدًا أكبر من الآخرين، ‏فإذا فيه، مع الجمجمة التي كانت، كما قيل، أصغر حجمًا من بقية الجماجم، تمثال من الذهب الخالص للخان ‏مانجو، أكبر إخوة هولاكو، الذي صرعته الدوزنطاريا وهو يغزو الصين. فنقل جثمانه الضخم إلى عاصمة ملكه ‏على حمارين. ولم يكونوا قد بلغوا في ذلك الوقت ما بلغناه من علم، فلم يهتدوا إلى فرق الكشافة. ولم تكن ‏لديهم مدارس يصفون أولادها على الجانبين، كما فعلوا بنا في حيفا في الثلاثينيات، حين صفونا على جانبي ‏شارع الناصرة أمام عامود فيصل حاليًا ، لنشيع جثمان الملك فيصل الأول، الذي مات في سويسرة بغير ‏الدوزنطاريا. ‏
ولذلك قرروا أن يقتلوا كل من تلقاه الجنازة في طريقها، احترامًا لذكرى خان الأول، كما قتلنا في الثلاثينيات ‏ثلاثة أيام دراسة احترامًا للملك الأول. فأزهقوا في طريق هذه الجنازة، بحسب ما سجله المؤرخون، عشرين ‏ألف روح وروحًا واحدة، هي روح عمي لجدي الذي لفظ أنفاسه الأخيرة وهو متشبث بصنم الخان مانجو بعد ‏سبعة قرون. ‏
تبين عمي لجدي، وهو في القاع، أنه أخيرًا لقي الكنز الذي ظلت العائلة تبحث عنه عبر الأجيال، فدهمته ‏الفرحة، فأضاع فتيله، فلم يجد الباب. فأخذ ينادي على زوجه مقدرًا أن بيته، الذي بجوار الخربة، هو الآن ‏فوقه. وروى لها كل ما أسلفت ذكره. فسمعت صوته قادمًا من الأعماق. إلاّ أنه استحلفها بقبر والديها ألاّ تخبر ‏أحدًا، حتى أخاه. بل أن تنزل إلىه من فتحة الهوة في حائط الخربة المهجورة. فخرجت. فلم تجد أي بيت ‏مهجور في القرية. فعادت إلى البيت وألصقت جبينها بالأرض ونادت عليه. فشتمها على نزقها، وأمرها بالتزام ‏الصمت حتى الصباح. فالصباح رباح. وسيجد طريقه لوحده. ‏
فلما لم يعد، أخبرت أهله بالأمر. فقاموا يفتشون، فلم يجدوا أية خربة. ‏
ولم يشاؤوا أن يبلغوا الحكومة حتى لا تضع يدها على الكنز فيضيع الكنز عليهم. وظلوا يبحثون عنه وعن صنم ‏مانجو حتى قامت الدولة. أما زوجه، فلم تمت إلاّ بعد أن وجدت غيره، ولم يكن عاقرًا. ‏
وأما أنا، فقررت ألاّ أموت مقوس الظهر كأسلافي. ومنذ نعومة أظفاري أقلعت عن البحث بين قدمي عن كنز ‏للخلاص. بل رحت أبحث عنه فيما فوق، في هذا الفضاء الذي لا نهاية له، في هذا (البحر بلا ساحل) كما ‏وصفه محيي الدين بن عربي. ‏
فقد قيض لنا، ونحن في المدرسة الابتدائية، أستاذ مغضوب عليه مولع بعلم الفلك، حكى لنا حكايات العباس بن ‏فرناس وجول فيرن، وتعصب للفلكيين العرب القدماء، من ابن رشد، الذي كان أول من درس بقع الشمس ‏حتى البتَّاني الحرَّاني الذي كان أول من استنتج أن معادلة الزمن تتغير تغيرًا بطيئًا مع مر الأجيال، وأول من ‏توصل بكثير من الدقة إلى تصحيح طول السنة الشمسية. فإذا كانت مدتها الحقيقية، أعلن المغضوب عليه، هي ‏‏365 يومًا و5 ساعات و48 دقيقة و46 ثانية، فإن البتاني حددها بـ 365 يومًا و5 ساعات و46 دقيقة ‏و32 ثانية، أي بفارق دقيقتين وأربع ثوان. فقد كان العرب، حين يفكرون - قال المغضوب عليه - أسرع ‏حركة حتى من دوران الأرض حول شمسها، فأصبحوا الآن يتخلون عن ملكة التفكير لغيرهم. ‏
وكان المغضوب عليه يبقينا في الصف بعد الدوام، ويغلق النوافذ، ثم يحكي لنا متباهيًا عن أبي الريحان محمد بن ‏أحمد البيروني، الذي استنبط كروية الأرض وأن جميع الأجسام تنجذب نحوها قبل نيوتن بثمانمئة عام، وخصوصًا ‏عن الحسن بن الهيثم الذي كان، وهنا يخفت صوت المغضوب عليه فيصبح همسًا ثوريًا، أول عالم انتهج ‏الأسلوب العلمي المادي الحديث بضرورة الاعتماد على الواقع الموجود والأخذ بالاستقراء والمقارنة. فقد كان ‏العرب حين يفكرون - قال الأستاذ المغضوب عليه - يعملون ثم يحلمون، لا كما يفعلون الآن، يحلمون ثم ‏يظلون يحلمون. ‏
ومنذ ذلك الحين وأنا أحلم بأن يذكرني التاريخ حين يذكر فلكيينا الأقدمين. وبقيت أحلم على هذا المنوال حتى ‏جندلوا والدي، رحمه الله، وقامت دولة إسرائيل. ‏
وكان أستاذنا المغضوب عليه يؤكد لنا أن العرب هم أول من استعمل الصفر للغاية نفسها التي نستعمله لها ‏الآن، ثم قسم الواحد على صفر فأثبت لنا أن هذا الفضاء لا نهاية له، والكون فيه: ‏
يسبح في بحر بلا ســـــــاحل
‏ في حنــــــدس الغيب وظلمائه *‏
فلا بد أن تكون فيه عوالم مثل عالمنا، وأرقى منا، فلا بد أن يأتوا إلينا قبل أن نذهب إليهم. ‏
لقد خرج الأتراك وأتى إلينا الإنجليز، فلم يتزحزح أستاذنا المغضوب عليه عن نظريته هذه. فكيف أتزحزح ‏عنها، أنا الشاب وعمري كله أمامي، بعد أن خرج الإنجليز وأتتنا إسرائيل? ‏
منذ ذلك الوقت وأنا أنظر إلى أعلى وأنتظر مجيئهم، فإما أن يبدلوا حياتي الرتيبة المملة تبديلاً، أو أن يأخذوني ‏معهم. وهل هناك من بديل? لذلك خرجت من فناء جامع الجزّار، في ساعة الفجر الكاذب، ورحت أجوب ‏طرقات عكا المظلمة وأنا أتطلَّع إلى فوق. ‏


* لإبن عربي

(11)

كيف لم يمُتْ سعيد شهيدًا في وادٍ على الحدود اللبنانية

فلما كنت مطمئنًا على قدري، ومتحققًا أن الأسوأ لن يصيبني، هبطت الهوينا درجات الباب ‏الشمالي، فملأت طاسة ماء من سبيل الطاسات، فارتويت وترحمت على أحمد الجزار. ثم ‏سرت في سبيلي. ‏
فإذا أمامي الطريق العريض حيث المسار شمالاً، إلى رأس الناقورة، فلبنان. فخفضت رأسي ‏خجلاً من غزالة. وتحولت عنه. ‏

كنا ثلاثة شبان زملاء صف واحد. فقررنا في نهاية الإضراب الكبير (1939) أن نعبر ‏الحدود إلى لبنان فنزور دار القيادة في بيروت نطلب سلاحًا. ‏
فركبنا سيارة الأجرة حتى قبيل رأس الناقورة. ثم انحرفنا يمينًا سيرًا على الأقدام بين كروم ‏العنب. فهبطنا واديًا عميقًا، فأظلمت السماء. فلما أخذنا نصعد على كتفه المقابل، أنهكنا التعب ‏وألهبنا العطش. فاستحثني الآخران، فبكيت. فخلفاني وراءهما بعدما خيراني بين الاستمرار ‏في الصعود أو أن أموت شهيدًا. فاخترت الأمر الأول. ولم ألحق بهما إلاّ بعد أن كانا قد ‏ارتويا من قطوف الدوالي الدانية. فرحت أروي غليلي، فلم ينتظراني. ‏
وإذا بفتاة في مثل عمري، تنادي والدها: هذا شاب مجاهد من فلسطين. فيجيبها الفلاح من ‏بعيد: اسقيه وأطعميه. فنتجاذب أطراف الحديث. فأقع في حبها. فتقول إن اسمها غزالة، وإنني ‏غزالها. فقد كنت خلب بنات. ‏
فأعدها بأن أعود إليها بعد أسبوع، ومعي السلاح والذخيرة، فألتقيها تحت هذه الدالية. ‏
فقالت إنها ستخبر والدها بالأمر، فلن يمانع بأن يخطبها شاب حلو من فلسطين. ‏
فأنحني عليها كي أقبلها. فتنفر غزالة ضاحكة وهي تقول: عد أولاً من بيروت. فلا أتبين سبب ‏صدها. ولكنني أسرع كي ألحق برفيقي. ‏
فأراهما أمامي على طريق الأسفلت تحيط بهما جماعة من شرطة الحدود اللبنانية. فقلت في ‏نفسي: مليح أنني تأخرت عنهما، وأنني علقت غزالة. ‏
فرأيت رجال الشرطة وهم ينحرفون بهما عن طريق الأسفلت، يسارًا، وينزلون بهما إلى ‏معسكر على الشاطئ، فيغيبون فيه. ‏
فسرت في الطريق نفسها مبتعدًا عنهم. فلم يلحظوني. قلت: نجوت. ولكن، أين أسير? لا مال ‏عندي ولا عنوان. فكيف أتدبر أمري في بيروت?‏
قلت في نفسي: هذا أسوأ من الحبس. فعلي أن أعود إليهما، فالحبس أقل سوءًا. ‏
فعدت إليهم. فسألني ضابطهم: ومن أنت? قلت: ثالثهم. قال: فلماذا سلمتنا نفسك? قلت: لا مال ‏ولا عنوان. ‏
‏- فأين مالكم? ‏
قلنا: لدى كبيرنا. ‏
وكنا جمعنا لديه عشرين جنيهًا، مالاً صامتًا، أخذ العسكر نصفه وشتمونا. وأما النصف الآخر ‏فأبقوه مع كبيرنا، فأنفقناه فيما وراء البنك في بيروت. وعدنا على الطريق نفسها. ولكننا لم ‏نحد عنها نحو كروم الدوالي، فقد كان الضابط اكتفى بالجنيهات العشرة ذهابًا وإيابًا. فلما التقانا ‏عائدين حيانا وسأل: أين السلاح أيها المجاهدون? أجاب كبيرنا: سلاحنا العلم، وما معنا شروى ‏نقير. فلم يشأ الضابط أن يقتسمها. بل صفع كبيرنا على قفاه وصاح: اعبروا! فطرنا هاربين ‏نحو حدودنا، وكبيرنا يقول: العلم بالشيء ولا الجهل به. ‏
فقلت: مليح أن صار هكذا، ولم يصر غير شكل. فصفعاني. فبكيت. ‏
ولكنني كنت أبكي على غزالة التي ضاع غزالها في بيروت. وتبينت سبب صدها. ‏
وبقيت، وأنا في صور فيما بعد لاجئًا، أتوق إلى زيارة الدالية على الحدود، حتى سمعت ‏الدكتور عشيق أختي، يومًا يقول: أصبح الفلسطينيون لاجئين تنفر البنات منهم। فتحولت نحو ‏اللاجئات. فاللاجئات للاجئين. فوجدتهن، على غير حالتنا، مشتهيات. فانشغلن عنا. فعدت إلى ‏دولة إسرائيل وأنا عطشان. ‏

(12)

كيف أنقذ الفجر الصادق سعيدًا من الضياع في دياميس عكا

وهكذا، يا محترم، تحولت عن طريق بيروت يسارًا، فدخلت في أزقة عكا، ودرت حول المسجد ‏حتى حارة الخرابة. فانقضى الفجر الكاذب واشتد سواد الليل. فأخذت أتلمس طريقي وأتعثر، حتى ‏رأيت ضوءًا في جهة البحر غربًا يغاضن بعينه مغاضنة متناسقة كأنما يستحثني إليه ويدعوني، ‏مثل عين أستاذ العربية اليسرى، المصابة بداء الغضن العصبي. فلما لحظتها أول مرة حسبته ‏يدعوني إلى اللوح. فقمت إلى اللوح. فصاح: عد إلى مكانك يا لوح! فعدت. فظلت عينه اليسرى ‏تغضن. فحسبت أنني فهمت مأربه. فلما تلا علينا النشيد: (فلسطين بلادي، هيا يا أولادي)، ‏وغضن بعينه اليسرى، ضحكت قبل أن يتم البيت. فتوقف مذهولاً.. فسمعت لهاث الطلبة ‏المذعورين. فنزل علي ضربًا بالمؤشر حتى تحطم. ثم حكم عليّ بأن أقعد بعد الدوام أنسخ قصيدة ‏امرئ القيس: ‏
سما لك شوق بعدما كان أقصرا
‏ وحلت سليمى بطن ظبي فعرعرا ‏
حتى البيتين: ‏
بكي صاحبي لما رأى الدرب دونه
‏ وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا ‏
فقلت له لا تبك عينك إنما
‏ نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا ‏
عشرين مرة! ‏
ومنذ ذلك الحين تحققت عاقبة الاستهزاء، فحمدت معلمي على ما أصاب عينه اليسرى من غضن ‏عصبي. وقلت في نفسي: مليح أن تحطم مؤشره على بدني. ‏
ولكنني أيقنت، وأنا أرقب الضوء المغضن، المنبعث من ناحية الغرب، أنه ليس عين معلمي ‏اليسرى. ذلك لأن أشباح المسجد كانت أخبرتني بأن معلمي هذا استشهد وهو ينقل متفجرات من ‏حيفا إلى عكا في الأسبوع نفسه الذي قضى فيه الجيش البريطاني على الثوار في موقع المصرارة ‏في القدس، وفي القسطل على طلعة القدس، قبل زحف الجيش العربي، بقيادة أبو حنيك، جلوب ‏باشا، على تلك المناطق من فلسطين التي تقرر إخلاؤها من العرب، رحمه الله. ‏
لذلك توجهت نحو الضوء المغضن وأنا متحقق أنها دعوة سماوية، حتى أشرفت على البحر، ‏فرأيت أن منارة عكا إلى يساري، هي التي كانت عينها تغضن، وتدعوني. ‏
فاستهواني هذا الضوء الذي لم ينطفئ، بعد أن انطفأت بقية الأضواء في عكا المحتشمة صبرًا. ‏
ورحت أتقدم في اتجاه المنارة على درب خاو، وقد هدأ البحر، وانكفأ الموج، سوى مداعبة هينة ‏مع سيقان الصخر الرابض أمام سور أحمد متأهبًا لالتقاط قبعة نابليونية أخرى. ‏
نعم، يا محترم. فإذا ما انفك الآدميون يربضون هذه الربضة، فكيف لا يفعلها صخر عكاء? ولقد ‏ظل العكيون يرددون، استخفافًا: يا خوف عكا من هدير البحر! حتى أثبت جيرانهم الحيافنة، وهم ‏يهرعون إليهم، عبر البحر المائج، أنهم أشد استخفافًا بالبحر منهم. ‏
حتى تناهى إليّ صوت فجائي دون ما مفاجأة، ينادي: ‏
يا سعيد، يا سعيد! فاستحوذني شعور الذي يسترق النظر من ثقب المفتاح على عذراء في خدرها. ‏فأردت أن أعود القهقرى استحياء لولا أنه عاد ونادي: هلم! ‏
قلت: ها أنا ذا ‏
قال: اقترب! ‏

فإذا بهيئة رجل طويل القامة، ينبثق مع الضوء من صخر المنارة، فينتشر مع ضوئها ويختفي ‏باختفائه، كأنما هو مغاضنة عين المنارة. وقد التف بعباءة زرقاء ذات زبد أبيض، مثل قنديل ‏البحر. وهو يتقدم نحوي وأنا أتقدم نحوه حتى التقينا في منتصف الفسحة بين بقية السور يمينًا ‏وبقية السور يسارًا على أرض حارة الفاخورة. ‏
فلم أر من وجهه سوى تجاعيد أشبه بصفحة البحر حين تلفحه نسمة شرقية. ‏
فألقى في روعي أن في التجاعيد جمالاً مثلما يكون الجمال في نضارة الصبا. ولولا رهبة الحلكة ‏لأكببت عليه ألثم خده. ‏
وسوى عينين واسعتين، غؤورين، على حور أنيس، يعمق غورهما كلما اكتنفهما الظلام، ثم ‏تطفوان كلما انعكس الضوء عليهما، كأنما الحدثان، الليل والنهار، يتعاقبان فيهما في لحظة ‏متكررة. ‏
وسوى جبين عريض سرعان ما تحققت أن ما يختفي عني منه أعرض مما طاق بصري أن ‏يلحظه لأول وهلة. وفيما بعد، حين وقفت أول مرة في حياتي أمام ناطحة سحاب، وأنا لاه، ‏فانتبهت على أنني أصعد البصر في بناء شامخ فلا أرى، للوهلة الأولى، جميع علوه الشامخ، ‏تذكرت جبين شيخ المنارة. ‏
فمد يده إليّ. فصافحتها. فشعرت بالراحة. فلم أسحب راحتي. وقلت في نفسي: إن في راحته ‏لأسرارًا. ‏
قال: ألم تكن تبحث عني? ‏
قلت: طول العمر يا ذا المهابة. فهل جئتم? ‏
قال: نحن هنا، نحن هنا، حتى تجيئوا إلينا. ‏
قلت، وما زالت راحتي في راحته: كنت حسبت أن المصافحة شيمة همجية.‏
فتبسم حتى صفت صفحة خده من تجاعيد البحر، ثم قال: ونحن حسبنا أنكم، لما أخذتم هذه ‏الخصلة، عبرتم على نصف الطريق إلينا. إن أول إنسان صفق كفا بكف استحسانًا نقشنا اسمه ‏على لوحة الخالدين من قبل سلامة وبتهوفن وسيد درويش. ونراه نبيكم الأول. ويخجلنا أن أكثركم ‏ما زال يبخل على فنان، أو على حادي ركب، بهذا الثمن. اثنان من أهل الأرض صدرنا بهما ‏لوحتنا: أول من أشعل نارًا، وأول من صافح أخاه. وكانا أول من تصافح. أبق راحتك في راحتي ‏واسترح! ‏
ففعلت. ‏
قال: فماذا تريد يا سعيد? ‏
فهتفت: أن تخلصني. ‏
قال: ممن? فسحبت كفي من كفه فزعا. وحبست لساني قبل أن يزل فيما لا تحمد عقباه. كان أبي ‏رحمه الله، قد علمنا أن الناس يأكلون الناس، فحاش أن نثق بمن حولنا من الناس. إنما علينا أن ‏نسيء الظن بكل الناس، حتى ولو كانوا إخوتك من بطن أمك ومن ظهر أبيك. فإذا لم يأكلوك، فقد ‏كانوا يستطيعون أن يأكلوك. ووالدي، رحمه الله، ظل يأكل الناس حتى أكلوه. ‏
فأمسكت لساني، حرصًا، وقلت في نفسي: يكون الحاكم العسكري أرسله ليختبرني? وقلت: شكرًا ‏يا ذا المهابة، فأنا أكاد ألاّ أعرفك. وهنأت نفسي على هذه اليقظة. ‏
قال: اتبعني! ‏
فقلت في نفسي: يكون لا يزال يختبرني? فتبعته. ‏

فدخل بي تحت قنطرة إلى يمين السجن. فساحة مسجد الرمل. ثم دار بي حول جامع الجزار.. فإذا ‏بقبو غصنا فيه، فإذا نحن في دياميس عكا، وقد جعل نور عينيه كشافًا أمامنا. ‏
حتى دخلنا في بهو رحب، رطب، قد انكفأت أجنابه عن مصاطب افترشنا إحداها. ‏
فقال: كان من سبقكم يبني فوق من سبقهم، حتى جاء جيل الأثريين، يحفرون من تحت ويهدمون ‏من فوق. فإذا سرتم على هذا المنوال ستبلغون الدناصير ‏
قلت: فما هذا المكان يا ذا المهابة? ‏
قال: هذا بهو التجار من جنوا. وفيه كانوا يبيتون، ويتقايضون، ويتقمرون، ويتقامرون، ويلدون، ‏ويولدون، ويُدْفنون ويَدْفِنون. ‏
قلت: فلماذا أثخنوا الأرض بهذه الدياميس، يا ذا المهابة? ‏
قال: ليستشروا وليكفوا شر الأهالي، فوق، عنهم. ‏
قلت: ولكن الدياميس لم تنقذهم. ‏
قال: ولكنهم لم يحسبوا ذلك. ‏
قلت: ما اسمك يا ذا المهابة? ‏
فرمقني بعينين رأيت في سوادهما الواسع سعيدين ينظران إلىّ في تعجب: سعيدًا ملحاحًا، وسعيدًا ‏خائفًا. ‏
ثم قال وهو يبتسم: عندكم يخرج الإنسان على الناس باسمه. أما نحن، عندكم، فأنتم الذين تطلقون ‏علينا الأسماء التي تستريحون عليها. سمّني المهدي، الذي استراح أجدادك عليه، أو الإمام، أو ‏المنقذ. ‏
فقال أحد السعيدين، وكان السعيد الآخر ينكمش ويتضاءل: فأنقذنا، يا ذا المهابة! ‏
فحدجني بنظره حتى تكسرت أمواج الغضب على السعيدين في عينيه فتلاشيا، ثم قال: هذا شأنكم، ‏هذا شأنكم! حين لا تطيقون احتمال واقعكم التعس ولا تطيقون دفع الثمن اللازم لتغييره، لأنكم ‏تعلمون أنه باهظ، تلتجئون إليّ. إنني أنظر إلى ما يفعله الناس الآخرون، وما يبذلونه، ولا ‏يسمحون لأحد بأن يحشرهم في ديماس من هذه الدياميس، فأغضب عليكم. ماذا ينقصكم? هل بينكم ‏من تنقصه حياة حتى لا يقدمها، أو ينقصه موت حتى يخاف على حياته? ‏
وكنت أستمع إليه وأنا مبهور النفس. واحْلَوْلَك الديماس في عيني. وتذكرت فجري الموعود في ‏مدينتي حيفا الحبيبة. فاشتدت عليّ الهواجس. ‏
فقلت: غدًا أعود إلى مدينتي حيفا، يا ذا المهابة.. وأحيا فيها، فانصحني. ‏
فهدأ اضطرابه. وقال: لن تجديك نصيحتي. إلاّ أنني سمعت في بلاد فارس حكاية عن فأس ليس ‏فيها عود ألقيت بين الشجر. فقال الشجر لبعض: ما ألقيت هذه ها هنا لخير! فقالت شجرة عادية: ‏إن لم يدخل في إست هذه عود منكن فلا تخفنها. *‏
اذهب، فهذه الحكاية لا تصلح للعود. ‏
‏- فهل أستطيع، يا ذا المهابة أن ألقاك مرة ثانية? ‏
‏- متى شئت، تعال إلى هذه الدياميس. ‏
‏- في أية ساعة، يا ذا المهابة? ‏
‏- حين تخور. ‏
‏- متى? ‏
ولكنه كان قد اختفى। فبقيت وحدي أتخلل في الدياميس، وأهيم في ديماس حتى أتعثر بآخر، إلى ‏أن شق الفجر الصادق بطن الأرض فألفيتني في باحة المسجد أتمطى وأتثاءب. ‏

(13)

كيف أصبح سعيد زعيم عمال في اتحاد عمال فلسطين

الآن، وأنا في بحبوحة من الوقت، أستعيد لقائي الأول برجل الفضاء العجيب، فأعجب من نفسي كيف تركته يمضي دون أن أتعلق بأهدابه وألح عليه أن ينقذني من هذه الحياة المهولة.
أما في حينه، فكنت مشغولاً بإعداد نفسي لملاقاة الأدون سفسارشك، فكنت أحطه فوق القلب مع رقية جدتي.
ولكنني لن أطيل عليك السرد، يا محترم. فقد دخلت مركز البوليس في عكا في الساعة السابعة صباحًا بالضبط، كما أمروني.
فسألت عن سيدي الحاكم العسكري الذي سيحملني إلى حيفا. فجعلوني أنتظر حتى الرابعة مساء دونما طعام أو شراب سوى قدح من الشاي قدمه لي جندي شاب حدثني باللغة الإنجليزية، فرددت عليه بأحسن منها.
قال إنه متطوع جاء ليحارب الإقطاع، وإنه يحب العرب.
وقبل أن يترك المركز عاد وصافحني بحرارة ووعدني بأنه، حين تنتهي الحرب، سيقيمون لنا كيبوتسات يعتمدون فيها على أمثالي من الشبان المتحررين الذين يتقنون لغة إنسانية.
وقال: شالوم! فأجبت بـ (بيس) مؤكدًا إنسانيتي. فضحك وقال: سلام، سلام، بالعربية. فانفرجت غمتي.
ثم أركبني أحدهم إلى قرب السائق في سيارة جيش مغبرة وموحلة. وركب إلى جانبي، صامتًا، حتى أشرفنا على مدينتي حيفا عند السعادة.
فلم أبحث عن شقائق النعمان، لأنني تيقنت من عدم وجود مكان لذكريات الطفولة على هذا المقعد الذي لا يتسع لثلاثتنا.
فقال: أهلاً وسهلاً في مدينة إسرائيل!
فحسبت أنهم غيروا اسم مدينتي الحبيبة، حيفا، فأصبح (مدينة إسرائيل).
فانقبض صدري مثلما انقبض، فيما بعد، حين مررنا بوادي الصليب، فإذا بالدرب خال من الناس ومن لعلعة الرصاص، التي تعودنا عليها في الأشهر الأخيرة قبل أن يسقطا - والدي وحيفا.
فقلت في نفسي: ها قد حل السلام الذي تمنيناه، فلماذا شعوري بالانقباض?
فأجاب حارسي، وكأنما كان يحرس أفكاري أيضًا: السلام، ما أوسع السلام!
فتحركت وأنا أحاول أن أتوسع في مقعدي. فزجرني فانزجرت.
فأوقف السيارة وطلب مني الانتقال إلى ظهرها المفتوح، قائلاً: كل واحد يقعد في مكانه.
ولكنني لم أجد على ظهرها مقعدًا، فوقفت في مكاني.
حتى دخلنا في وادي النسناس، من شارع الجبل ففرن الأرمني. فلم أنتظر أن ألقى طفله الذي علمته القراءة العربية، ذلك لأن باب الفرن كان مسدودًا.
فقال: انزل.
فنزلت.
فسلمني إلى اللجنة العربية المؤقتة.
فتسلموني شاكرين. فلما أقفى شتموه.
وصاح أحدهم: هل يحسبون مقر اللجنة أوتيلا? لا بد أن نحتج على ذلك في مكتب وزير الأقليات.
فأردت توكيد عروبيتي كي أستميلهم نحوي، فتحسرت أمامهم على اسم مدينة حيفا الذي أصبح مدينة إسرائيل. فحملق أحدهم بالآخرين، وقال: وأهبل أيضًا?

فلم أفهم كيف اعتبروني أهبل حتى معركة الانتخابات الأولى حين فهمت أن كلمة (مديناه) بالعبرية تعني (دولة) بالعربية.
فحيفا أبقوا على اسمها لأنه توراتي.
فاقتنعت، بيني وبين نفسي، بأنني حقًا أهبل.
وأكبر دليل على ذلك أنني كنت آخر من تحقق من أعضاء اللجنة أن المرحوم كيوورك كان يقدم لنا، في مطعمه، لحم الحمير. فنطعم ونشكره.
وفي صباح اليوم التالي، نزلت إلى شارع الملوك حيث استقبلني الأدون سفسارشك على عتبة مكتبه، وهو في ثياب الجندية। فنقدني عشر ليرات صحاح وقال: أبوك خدمنا، خذ هذه وكل! فصرت آكل في مطعم كيوورك حتى وجد لي أحد أعضاء اللجنة بيتًا مهجورًا من بيوت عرب حيفا। فجاء الجنود المسرحون وطردوني من هذا البيت. فاشتغلت زعيم عمال في اتحاد عمال فلسطين.

(14)

سعيد يلتجئ لأول مرة إلى الحواشي


حاشية: بعد أن دارت الأرض دورة كاملة أي في هذه الأيام، قرأت في صحفكم عن المذكرة التي قدمها وجهاء الخليل إلى الحاكم العسكري أن يبيح لهم استيراد الحمير من الضفة الشرقية، فقد ندرت. فسأل الصحفي: أين ذهبت حميركم? فضحكوا وأخبروه بأن جزاري تل أبيب أنفقوها في صنع النقانق. وحيث إنكم كنتم تؤكدون لنا، يا محترم، أن التاريخ حين يكرر واقعة، لا يعود على نفسه، بل تكون الواقعة الأولي مأساة حتى إذا تكررت كانت مهزلة، فإني أسألكم: أيهما المأساة? وأيهما المهزلة?
هل هي مأساة الحمير في وادي النسناس، التي ظلت أكثر من سنة سائبة: حمير من الطيرة، وحمير من الطنطورة، وحمير من عين غزال، وحمير من أجزم، وحمير من عين حوض وحمير من أم الزينات صينت من العقل، ومن لغط الإناث، فلم تهاجر، فنفقت دون أن يتحقق من لحمها الدسم غير المرحوم كيوورك، أم هي مهزلة النقانق الشهية، صنعة تل أبيب? أعلم، يا محترم، أنكم عنيدون فيما تستنبطونه من نتائج. ولكن، أليس صحيحًا أنه حيث يهاجر القوم، تبقي الحمير، وحيث يبقى القوم لا يجد الجزار ما ينقنقه سوى لحم الحمير? خذوا عني هذه الحكمة: كم من شعب أنقذته بهيمة من سكين جزار!
وفي أيامي الأولى، زعيم عمال في اتحاد عمال فلسطين، ولجت بيوتًا عربية مهجورة كثيرة في حيفا، من أبوابها المكسورة. فوجدت أقداح القهوة مصبوبة لم يجد أهل البيت وقتًا حتى يشربوها. وجمعت أثاث بيتي بعضه من هذا البيت، وبعضه من ذاك البيت، مما بقي من متاع لم تمتد إليه أيدي الذين سبقوني في الزعامة، الذين سبقتهم يد الحارس على الأملاك المتروكة، الذي سبقته أيدي وجهاء حيفا من زملاء وجهاء حيفا العرب، الذين لم يتركوا فيلاتهم إلاّ بعد أن أوصوهم بها خيرًا حتى يعودوا (بعد شهر على الأكثر)، فحفظوها في القاعات الشرقية التي أفردوها في فيلاتهم لتوكيد صداقة قديمة لا تفنى ولا تزول مثل خشب السنديان. فأصبحوا يتباهون بالسجاد العباسي (نسبة إلى شارع عباس في حيفا) كما تباهى أمثالهم في القدس بالسجاد القطموني (نسبة إلى حي القطمون في القدس). وصار الشيوعيون يسمون الحارس على الأملاك المتروكة بالحارس على الأملاك المنهوبة، فأخذنا نلعنهم علانية ونردد أقوالهم في سرائرنا.
فلما وقعت حرب الأيام الستة، التي جاءت بعد عملية قادش (المقدسة) مثلثة الرحمات ، التي جاءت بعد حرب الاستقلال، ورأيت أولاد القدس والخليل ورام الله ونابلس يبيعون صحون الزفاف بليرة، قلت: بليرة ولا بلاش! وأيقنت صحة استنباطكم، يا محترم، بأن التاريخ، حين يعيد نفسه، يعيدها متقدمًا أمامًا، من بلاشي إلى ليرة। إن الأمور، حقًا تتقدم। وانتهت الحاشية ।

خامس عشر
الدرس الأول في اللغة العبرية

اشتغلت زعيم عمال في اتحاد عمال فلسطين، أوقعتني الشجاعة في مأزق لم أنج منه إلا بمزيد من هذه الشجاعة. ولولا أصحابك، يا محترم، الذين كتبوا عني في جريدتهم، وهاجموني، فأيقنت أنني مهم لما وقع ما وقع. ولكن كان من الممكن أن يقع ما هو أسوأ منه.
فحين أيقنت أني مهم، تشجعت وذهبت عصرا، بالباص، إلى وادي الجمال، على شاطئ البحر تحت منارة اللاتين، حيث كان والدي، رحمه الله، قد شيد لنا بيتا بعرق جبين أخي الذي مزقه الونش إربا. ولم اخبر أحدا بنيتي على هذه المغامرة.
فلما عبرت السكة الحديد، وترحمت على شاعرنا مطلق عبد الخالق الذي دهمه القطار وهو يعبر الخط من هذا المكان، تذكرت كلمة نوح إبراهيم.
(( الدين لله أما الوطن فللجميع)) فأسرعت إلى خالتي أم اسعد التي تكنس كنيسة الكاثوليك منذ طفولتنا.
فوجدتها تكنس الحوش في المكان الذي تركناها فيه فقلت لنفسي: الحمد لله على أن شيئا لم يتغير، ولا مكنسة أم اسعد المصنوعة من عيدان العليق.
وانحنيت على يدها اقبلها. فصاحت أنا محصية يا خواجا! ولفظتها (( مخصية))* كما يلفظها العسكر... وأسرعت إلى غرفتها وأنا وراءها، لا افهم شيئا.
وقامت إلى أيقونة ستنا مريم، المعلقة فوق فراشها المرتب، فأزاحتها. فإذا بكوة في الجدار أخرجت منها صرة من قماش ابيض، فكتها مديرة ظهرها حرصا على ما في الصرة.
وكانت تردد: يا عدرا، هذه مصاري الجهاز!
ثم مدت يدها نحوي بقسيمة الإحصاء، المطوية بعناية. وصاحت بصوتها الضعيف: أنا مخصية، وفي رعاية سيدنا المطران. فماذا تريد مني يا خواجة؟
فصحت بها: أنا سعيد يا خالتي، فكيف تنسين؟
قالت: من سعيد؟ قلت: الطيراوي - ففي وادي الجمال كانوا يظنون كل قروي انه من الطيرة.
فدارت على نفسها عدة دورات. فأخذتها بين يدي. وجلسنا على الديوان وهي تسألني عن والدتي وعن أختي، وعن لبن الطيرة الذي لا يصلح غيره لشيخ المحشي.
قلت: وبيتنا؟
قالت سكنوه!
قلت: فهل تعرفينهم ؟
قالت: أنت ترى يا ولدي كيف خبا سراجي، وكل الخواجات خواجات. ولم يعد أحدا يصطاد سمكاً.
قلت: فهل يستقبلونني إذا زرت بيتنا؟
قالت: علمي علمك يا ولدي. ورسمت على صدرها إشارة الصليب فودعتها وقد أثارت هذه الإشارة هواجسي.
فلما مررت من أمام بيتنا ورأيت هناك غسيلا منشورا، خانتني شجاعتي فتظاهرت بأنني جئت أتنزه على شاطئ البحر. وأخذت اذهب وأعود من أمام بيتنا و في كل مرة أهم بان اطرق الباب فتخونني شجاعتي.
حتى أمسى المساء فخرجت امرأة تلم الغسيل فنظرت نحوي ثم هتفت بأمر فأسرعت مبتعداً ولكنني رأيت رجلا في مثل سنها يخرج ويجمع معها الغسيل قلت في نفسي: هذه خدعة فكيف يجمع رجل غسيل بيته؟ هذه فعلة لم يفعلها أبدا والدي رحمه الله، مع أنني لا اذكر والدتي إلا عاجزة وكثيرة الهم. فازددت سرعة حتى أصبحت في الشارع الرئيسي أمام فيلات موظفي حيفا العرب، الذين بنوها ورحلوا إلى لبنان، ليبنوا غيرها ويرحلوا وكان الظلام أطبق وكنت تعبا وخائفا من مغبة هذه المغامرة والطريق طويل.
وكان يمر بين الفينة والفينة عامل يهودي. عرفت ذلك من ثياب العمل التي كانت عليهم وكان جميعهم متوسطي العمر فالشباب والشابات في الجيش.ولم أكن احمل ساعة فاحتجت إلى معرفة الوقت لعل الباص أن يمر أو انه قد توقف في هذه الناحية النائية فبأية لغة أسال هؤلاء الناس عن الوقت؟ فإذا سألتهم بالعربية كشفوا أمري فبالانجليزية أثرت شكوكهم فرحت استعيد ما اذكره من كلمات عبرية حتى تبادر إلى ذهني أن السؤال عن الوقت بالعبرية هو ما شاعاه الذي وجهته يوما إلى فتاه قرب سينما ارمون فشتمت عورة أمي بالعربية الفصحى.
فلما اقبل احد هؤلاء العمال نحوي أطلقتها ما شاعاه؟ فتريث ثم هش في وجهي ثم كشف عن رسغه ثم صاح أخت. فلم أكن كسولا وتذكرت أن أخت هي ثمانية بالألمانية فترحمت على جارنا خريج شنلر وعدت مطمئنا إلى وادي النسناس مشيا على الأقدام وأنا مزمع على تعلم اللغة العبرية.
وفيما بعد تذكرت ما كنا تعلمناه في المدرسة عن فك رموز الهيروغليفية فأخذت اقرأ أسماء الدكاكين بالانجليزية فأقارن الحرف الانجليزي بقرينه العبري على لوحة الدكان حتى فككت الحرف فتابعته في الجريدة العبرية وتكلمتها بأسرع مما قرأتها وأخذني الأمر عشر سنين حتى ألقيت أول خطاب تحية باللغة العبرية وكان أمام رئيس البلدية حيفا فسجلها في صحيفته سابقة.
أما العجيب في الأمر الآن فهو أن صباني نابلس بعد ربع قرن من هذا الكلام أتقنوا اللغة العبرية في اقل من سنتين ولما تحول احدهم إلى صناعة الرخام علق على مدخل جبل النار لافتة بالخط الكوفي المقروء جيدا عن مصنع الشايش الحديث لصاحبه مسعود بن هاشم بن أبي طالب العباسي والشايش هو الرخام بالعبرية فليست الحاجة أم الاختراع فقط بل أيضا مصلحة كبار القوم التي أرخصت أمهاتهم فقالوا الذي يتزوج أمي هو عمي ومن مصالحهم أيضا أن يحولوا بين العامة والاتفاق على لغة مشتركة حتى ولو كانت الاسبرنتو لكي لا يحولوا بينهم وبين ملكهم।
سادس عشر
كيف لم يعد سعيد أبو النحس تيسا

ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد. فقد رحت أتعجب من جهل العامل اليهودي باللغة العبرية حتى أقنعت نفسي بأن هذه الدولة ليست بنت معيشة. فلماذا لا أحفظ خط الرجعة?

فقلت: ما لي غير المحامي عصام الباذنجاني، صديق ابن العم الوزير الأردني، وأخيه الروح بالروح. وكان قد حول بيته الكبير في شارع عباس إلى صومعة ينفث منها اللهب على دولة الأدون سفسارشك كلما زاره صحفي أجنبي. حتى الشيوعيين، الذين اعتبرهم وزير الأقليات أخطر طابور خامس في عقر الدولة، اعتبرهم صديق ابن العم الوزير الأردني مارقين على العروبة وعلى دينها.

وكان لا يعترف يهما - بالدولة وبصحفها - فيرفض أن يقابل من رجال الصحافة سوى الأجانب. فلا تظهر تصريحاته إلاّ في التايمزين - تايمز لندن، وتايمز نيويورك، وفي أمهات الصحف في بلاد العرب، من النيل إلى بردي. ونحن، زعماء العمال في اتحاد عمال فلسطين، أخرجنا صفير التعجب، من شفاهنا المزمومة، على وقاحته القومية حين سمعنا أنه رفض تعليم ابنه في الجامعة العبرية في القدس، بل بعثه إلى كمبردج - إلى كمبردج! وعدنا نزم شفاهنا في صفير الدهشة.

فلما أرخي الليل سدوله، تسترت بها وطرقت بابه. فتوقفت قرقعة أحجار النرد. وفتح لي وهو يخشخش بالزهر. فمسيت عليه، فأدهشته الزيارة. فلما رأيت أحد زملائي، من زعماء اتحاد عمال فلسطين، عنده، وكان يلاعبه، وقد هم بالخروج حين دخلت، لم أخف دهشتي. فحياني وقال: جاري! فتنحنحت على سبيل الموافقة. وبقيت أتنحنح حتى خرج.

ولما انتهيت من تعداد ما لابن العم الوزير الأردني من مناقب، ولما انتهى الباذنجاني من التحسر على مصيري الأسود، ومن الوعد بالعفو عند المقدرة، سردت على مسامعه ما وقع في مغامرتي، وما وقع في رأسي من نتائج. فباركني، وقال: يفرجها!

ولكنه لم يفرجها.

فما أن وطئت قدماي عتبة النادي، في صباح اليوم التالي، حتى استدعاني يعقوب إلى غرفته. فإذا وراء مكتبه رجل ربعة، وضع فوق عينيه نظارة سوداء وأسدل الستائر. فقلت: هذا ضرير.

وأقبلت عليه، وأخذت يده في يدي مسلمًا قبل أن يمدها إليّ حتى لا أحرجه في عماه. فزجرني يعقوب، وصاح: تأدب! فوقفت متأدبًا.

فقال يعقوب: هذا رجل كبير، وجاء ليحادثك على انفراد، فلا تخف عنه شيئًا.

وتركنا لوحدنا.

فما أن أطبق علينا الباب حتى انتفض الرجل الكبير واقفًا، فلم يزدد طوله سوى شبر.

وصاح: إننا نعرف أين كنت أول أمس!

فقلت في نفسي: إذا لم يكن هذا ضريرًا فإنه أطرش. فاقتربت من أذنه وصحت: أردت أن أستنشق هواء البحر، ممنوع?

فلطمني، فلم يخطئ الهدف.

فقلت في نفسي: لا أطرش، ولا ضرير، بل هو رجل كبير حقًا. فتصاغرت له، وقلت: اسأل عني الأدون سفسارشك.

فصاح: أم أسعد!

فقلت في نفسي: حتى أنت، يا أم أسعد?

فصاح: (أخت). ولفظها ألمانية فصحى.

فقلت في نفسي: ما بقي إلاّ أن يسألني عن ليلتي السوداء في بيت الباذنجاني.

فصاح: النرد!

فارتميت على الكرسي، ووضعت رأسي بين راحتي وأنا أهتز يمينًا وشمالاً مثلما عودتنا الوالدة.

ثم وجدتني أقول فيما يشبه العويل: والله العظيم لا أعرف عن ابن عمي الوزير الأردني غير اسمه.

- هل هو ابن عمك لزما?

- والله العظيم لا.

- لماذا?

فتحيرت كيف أرد على سؤاله هذا. ولكنه كان قد هدأ، وقام إليّ، وربت على كتفي أبويًا. وقال: ليكن هذا درسًا لك. ولتعلم أنه لدينا وسائل حديثة نضبط بها حركاتك وسكناتك حتى ما تهمس به في أضغاث أحلامك. وبأجهزتنا الحديثة نعرف كل ما يدور في هذه الدولة وخارجها. فلا تعد إليها مرة ثانية.

ولكنني ظللت أهتز يمينًا وشمالاً لا يخرج من فمي غير: أنا تيس، أنا تيس!

حتى خرج بعد أن أنزل نظارته السوداء عن عينيه. فرحت أترحم بصوت عال على والدي، الذي كان أول من أدرك هذه الحقيقة عني.

فالله يستر عرضك يا أم أسعد، ويستر عرضك يا (أخت). ووالله العظيم أستطيع أن أذهب أنى شئت، وأستطيع أن أفكر بما شئت. ولكنني كنت تيسًا حين طرقت باب الباذنجاني. وكان والدي، رحمهُ الله، محقًا. كان دائمًا يغلبني في وقعة النرد، حتى إذا قلت له: أنت غلاب بها يا أبي، قال: لا يا بني، بل إن كل أصحابي يغلبونني. ولكنك تيس!

ولما قررت أن لا أبقى تيسًا، لم أخبر الرجل الكبير برأيي في جهازه الحديث

سابع عشر
هل سعيد هو رأس الخيش
أصبح رأيي في جهازه مقررًا. فلو كان يستطيع، حقًا، أن يحصي عليَّ حركاتي وسكناتي لكان سجل على لقائي الغريب برجل الفضاء. ولكنه لم يفعل.
فقررت أن أطمئن إلى هذا الأمر، فأزور صاحبي الفضائي في دياميس عكا، فقد يحتاج إلى الحذر. وإني لمحتاج إليه.
فبالغت في الخضوع لرؤسائي طول الأسبوع وقد قر قراري أن أفعلها وأن أتسلل إلى عكا يوم السبت.. وهو يوم عطلتنا.
وكان السبت، الذي وقع عليه الاختيار، هو اليوم الحادي عشر من آخر شهر في سنة 1948 ذات الكف العفريتية. فأنا لا أنسى هذا التاريخ الذي أصبحت، فيما بعد، أؤرخ به حياتي - ما قبل وما بعد.
في مساء الجمعة، عشية السبت، كنت منزويًا في داري، أجمع شتات أفكاري على أسلم طريق أختاره في تسللي إلى عكا صبيحة الغد.
وكنت أطفأت النور وآويت إلى الفراش مبكرا حتى لا تزورني جارتنا الأرمنية العانس التي ما كانت تطيب لي إلا حين نشرب حتى نثمل - أنا حتى أحسبها صغيرتي ( يعاد)، وهي حتى تحسبني كبيرها سركيس (الذي ذهب مع العرب).
وكان من عادتها أن تنشط نشوتها بالتمتمة باللغة الإنجليزية عن كلارك جيبل وشارل بواييه وأشباههما.. فلبستني آفتها. فصرت أتمتم، مثلها، بما يقال وبما لا يقال، حتى إني لعنت، في اليوم السابق، الباذنجان وكل من يستطيبه. فقامت غاضبة دفاعًا عن الباذنجان المحشو بالبرغل وباللحم. فاحتبست. لذلك قررت، من باب اليقظة، ألاّ أفتح لها الليلة الباب.
وأنا في هذه الهواجس ومثلها، إذا بطرق على الباب. قلت: جاءت، ولكنني لن أفتح لها، ولن أعتذر عما بدر مني في حق الباذنجان. فعاد الطارق يطرق. فراودتني النفس الأمارة. فقلت: هل أفتح لها ولا أتمتم? فعاد الطرق على الباب. فقمت وأنا أقول: لن يكون الجهاز يحكي بالأرمنية. وهذه مسكينة وأنا مسكين. وفتحت الباب.
فإذا أمامي امرأة وسط، ذابلة السحنة وخضراء العينين، تسألني في استحياء ورجفة: سعيد?
فأخذتني المفاجأة، فانعقد لساني، وأنا أنظر في عينيها الخضراوين وأطلب من نفسي ملحًا أن أتذكر هذا الوجه الذابل. لا بد أنها من قريباتي في القرية، أو جاءت من وراء الخطوط. فما جاء بها في هذه الليلة الليلاء?
قلت همسًا: تفضلي. وانتابتني المخاوف.
قالت: أختي (يعاد) تحت. فهل تصعد?
فبدأت أشك فيما أرى وفيما أسمع. لقد كنت، حين تلح الحاجة عليّ ويستفرغني الفراغ، أقعد مفتوح العينين، أو أمشي مفتوح العينين، فلا أرى سوى (يعاد)، فأقبض بيدي على يدها، ثم أضمها إلى صدري، فنروح في غيبوبة لم أقم منها مرة، وأنا في مكتبي في اتحاد عمال فلسطين، إلاّ على أبي مصطفي الأعرج وهو ينقض علىّ بعصاه لأنني تركته ينتظر خارج المكتب نصف نهار، بعد أن قلت له أن ينتظرني ربع ساعة، فألقاني في غيبوبة أخرى.
- هل حقًا أنت أخت (يعاد)?
- فهل تصعد?
- (يعاد)، (يعاد).
- عد! لا يصح أن تنزل إليها بثيابك الداخلية. عد والبس ثيابك، فأنا أناديها.
ففعلت ما نصحتني أخت (يعاد) بأن أفعله. ورحت أتراكض بين الغرف وأنا ألبس ثيابي، تارة، وألقي في المرحاض بما احتوته منافض السجائر من بقايا أعقابها الملوثة بأحمر شفاهٍ، أخرى. فلما سحبت حبل ماء الشطف فلم ينهمر، ملأت دلوا وألقيته فيه، فانسكب الماء على الأرض، فانسحبت عليه، فوقعت على يدي وركبتي أمام الباب المفتوح، فإذا أنا، على هذه الحال، أمام قدمي (يعاد) بعد طول الغيبة.
فقالت: جازاك!
فانتصبت واقفا والماءان يتصببان من وجهي، ماء الوجه وماء المرحاض. فتهالكت على أقرب مقعد ورحت أبكي. فتراكضت (يعاد) وأختها نحوي، وجففتا الماء ودموعي، وطمأنتاني على أن كل شيء يصلح.
فأي شيء هذا الذي يجب أن أصلحه?
فقالت (يعاد) معاتبة: أنت تعرف يا سعيد، سامحك الله، ما فعلت بأبي وبالآخرين.
ولكنني، سامحني الله، لم أفهم شيئا.

فقالت أخت (يعاد) إن (يعاد) جاءت اليوم من الناصرة، مشيًا على الأقدام، عبر شفا عمرو، فأبطن، فوق الجبال وحيدة، لتخبر أختها في حيفا بأن والدهما قد ألقوا القبض عليه في الناصرة، وبأنني أنا، سعيدًا، السبب في القبض عليه، وبأنني أرشدتهم إليه.
- أنا?
فقالت (يعاد): كلهم يقول أنت. أنت رأس الخيش?
- أنا?
- وأبوك من قبلك?
ومن خلال العتاب، المشبع بالنحيب وبأيماني المغلظة أنني لا يمكن أن أخرب بيت أحد من الناس، فكيف ببيت (يعاد)، فهمت أن أبا (يعاد) كان قد هاجر مع عائلته من حيفا. إلى الناصرة، وذلك بعد لغم الرفينري الأول . فلما سقطت عاصمة الجليل دعا الجيش الأهالي إلى تسليم أسلحتهم. فلما أبلغهم رئيس البلدية أن لا سلاح في الناصرة سوى طاولات شيش البيش التي انكبوا عليها في الساعات التي رفع فيها منع التجول، بدأت عمليات التطويق.
فطوقوا الحارة الشرقية، التي التجأت إليها العائلة. وحشروا الرجال في الأرض الخلاء عند الجابية، وراء كنيسة الأقباط، طول النهار في الحر الأوار وبدون ماء، مع أن الجابية كانت تفيض تحت أقدامهم ماء مقدسة من عين العذراء المقدسة.
وقالت (يعاد) متباهية إنها هي التي ذكرت الشيوعيين ببيت الشعر الذي جعلوه عنوان نشرتهم والتي وزعوها في أثناء التطويق:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
فاستدعاهم الحاكم العسكري. فلما أنكر أن يكون الجيش قد منع جمال الحارة ودوابها عن ماء الجابية يوم التطويق، حاولوا أن يفهموه أن الأمر تورية. فثارت ثائرته دفاعًا عن كرامة بني الإنسان الذين لا يصح تشبيههم بالدواب، حتى ولو كانوا أعداءنا العرب. (لقد أصبحتم مواطنين، مثلكم مثلنا). وطردهم من حضرته.
وكان الجيش، أثناء التطويق، قد نحَّى جانبًا كل من أرشد إليه رأس الخيش، ثم نقلهم إلى سجن الجملة، على اعتبار أنهم أسري حرب. وكان من بينهم والد (يعاد).
- فما رأس الخيش هذا?
قالت (يعاد): رجل أخفوا رأسه بعديلة خيش، ثقبوا فيها ثلاثة ثقوب، لعينيه ولفمه। وأقعدوه وراء طاولة تحوطها عسكر। وكان رجالنا يمرون أمامها فيتحققونهم. فإذا اهتز رأس الخيش إلى أمام مرتين، نحوا الرجل عن بقية الرجال. فأخذوا، في التطويق الواحد، ما لا يقل عن خمسمائة رجل وولد، أسرى حرب.
ثامن عشر
الليلة الاولى وحيدا مع يعاد
لقد أقنعت (يعاد) وأختها بأنني لم أكن رأس الخيش. ولكني أصبحت، منذ تلك الليلة خرقة الخيش!
كانت (يعاد) جاءت من الناصرة إلى حيفا دون إذن من السلطة. فهي متسللة. وكانوا يدخلون البيوت، من أبوابها في كل لحظة، بحثًا عن هؤلاء المتسللين. فإذا وجدوهم نقلوهم في ظلام الليل إلى مشارف جنين، في السهل الواقع بينها وبين قرية المقيبلة الذي كان الجيش البريطاني معسكرًا فيه. فلما انجلى عنه خلف لنا فيه ألغامًا كثيرة أضاف إليها عساكر العرب وعساكر اليهود ألغامًا أخرى، وذلك لأن خط المواجهة الأول كان يقوم هناك. فلما وضعت الحرب أوزارها على صدورنا، انفجر أحدها تحت أقدام أولاد صندلة وهم عائدون إلى أمهاتهم من المدرسة. فقتل على الطريق 17 منهم كما جاء في البيان الرسمي، غير الجرحى الذين ماتوا فيما بعد. وفي حينه جمعنا يعقوب وألقى على مسامعنا محاضرة عن الشيوعيين أعداء السامية، الذين يحرضون الناس على الإضراب والتظاهر مدعين أن اللغم هو لغم إسرائيلي.
وقال: بما أن جمعيتنا، اتحاد عمال فلسطين، هي منظمة دمقراطية، في دولة ديمقراطية، فأنتم أحرار في أن تعلنوا أن اللغم هو من بقايا الإنجليز، أو أن اللغم هو من بقايا العرب.
فلما تنطح له زميلنا الشلفاوي (كان مشلول اليد اليمني) وقال إنه قرأ في بيان الشيوعيين أنهم يتهمون الحكومة بالإهمال في تنظيف الطريق من ألغام الحرب، أجابه يعقوب: نعلم أن زوج أختك هو واحد منهم!
فانشل لسان الشلفاوي.
ولذلك اتفقنا على أن بيت أخت (يعاد)، التي لم تترك بيتها وأولادها في الحليصة منتظرة عودة زوجها الذي خرج ذات صباح وهو يقول لها: انتظريني فإنني عائد، ولكنه لم يعد، هو بيت لا مأمن فيه على أختها المتسللة.
واتفقنا، وأنا خافض البصر، أن تبيت (يعاد)، الليلة، في بيتي حيث أفردت لها غرفة خاصة وأنا خائف أن تسمعا خفقان قلبي.
وحلفتني أخت (يعاد) بعرض أختي أن أصون عرضها.
- وهي لك، إذا شئت، فيما بعد، شرعا.
وودعتنا وانصرفت وأنا مبهور الأنفاس وقد تشابك في ذهني عرض أختي الضائع و(يعاد) التي لقيتها فجأة، والتي دخلت إلى غرفتها وأقفلت عليها الباب وأخذت تبكي وتنشج بصوت مسموع، وأنا مستلق على فراشي أمام بابها لا أنام ولا أقوم. لا هي تكف عن البكاء، ولا أنا أكف عن الاستلقاء، حتى سمعتها تنادي:
- سعيد!
فتظاهرت بأنني نائم.
- سعيد!
فحبست نفسي.
فإذا هي تفتح الباب بيننا. فأغمضت عيني. فشعرت بأنها تسوي اللحاف فوقي. ثم سمعت وقع خطواتها وهي تسير الهوينا نحو دورة المياه، ثم تغتسل، ثم تعود من حيث جاءت. وتترك الباب بيننا مفتوحًا فتحًا خفيفًا.
فكيف أقوم الآن?!
ستعلم، حينئذ، أنني مستيقظ. فكيف لم أرد على ندائها? إنها حبي الأول. وبعد هذه الليلة أصبحت حبي الأبدي. (فكيف تركتها تبيت في بيتي، وحيدين، ولم أقل لها كلمة واحدة? قبلة واحدة? هل أنا جبان? فكيف لم أجبن أمام صاحبة سركيس?
فماذا أفعل الآن? وإلى متى أظل مستلقيًا? ولكنني لم أستلق طويلاً