الاثنين، 28 فبراير 2011

الصادق النيهوم: اسرائيل الجريمة الذكية


في ملفات المحاكم الفرنسية حكاية مواطن عادي ارتكب ذات مرة جريمة قتل. زار عشيق امرأته في بيته وكسر رأسه بخمس رصاصات. ترك مسدسه بجانب القتيل. ترك أيضا قبعته وبطاقته الشخصية… ذهب بعد ذلك الى البيت وأخبر امرأته انه قتل عشيقها وطلب منها أن تبلغ عنه الشرطة. بعد نصف ساعة كان المواطن يدلي بأقواله لوكيل النيابة.
لم يعترف له بجريمة القتل. لم يهتم بالأدلة القاطعة ضده بل جلس في مقعده هادئا ولفت نظر وكيل النيابة الى أن المرء لا يقتل أحداً ثم يترك مسدسه وقبعته وبطاقته الشخصية في مكان الحادث، وأن القاتل لا يدبر جريمته في الخفاء ثم يترك عنوانه للشرطة، وأي مواطن في العالم يستطيع أن يكون القاتل ما عداه هو شخصيا… بعد ذلك استراح في مقعده ولفت نظر وكيل النيابة الى أن امرأته لم تكن على وفاق تام معه أو مع عشيقها، وانه من المعقول أن يتصور المرء أن تلك السيدة ارتكبت جريمة القتل وتركت أشياء زوجها في مكان الحادث.
بعد ثلاثة شهور أثبتت المحكمة جريمة القتل على الزوجة البريئة.
لم يصدق أحد أن زوجها يقتل غريمه ثم يترك له بطاقته الشخصية. لم يصدق أحد أن القاتل الحقيقي يخلّف وراءه جميع هذه الأدلة القاطعة… كان من الواضح بالنسبة للقضاة أن الأمر كله دسيسة مفضوحة ضد الزوج الطيب القلب، وكان من الواضح بالذات أن الدسيسة مفضوحة جداً. بعد عشرين عاما اعترف الزوج بلعبته البسيطة التي ضحك بها على ذقن العدالة وانتقم بها من غريمه وترك المحكمة تنتقم له من امرأته وخرج من المذبحة دون أن يصاب بخدش.
لماذا أحدثك عن القتلة واللصوص؟
لأني أريد أن أحدثك عن إسرائيل..
العالم كله يسمع أن إسرائيل تطالب بالمفاوضات معنا. العالم كله يعتقد أن ذلك يعني ببساطة أن إسرائيل ترغب في «التفاهم» معنا.. ونحن بدورنا نرفض المفاوضات رفضا باتا، والعالم يعتقد أن ذلك يعني ببساطة أننا نرفض «التفاهم». المحكمة تضعنا في قفص الاتهام مقدماً باعتبارنا دعاة حرب. المحكمة تبرئ إسرائيل مقدماً باعتبارها داعية سلام. لا أحد يريد أن يصدق أن طلب المفاوضات ليس دائما دعوة للتفاهم. لا أحد يريد أن يتذكر أن القاتل قد يترك بطاقته الشخصية متعمداً بجانب ضحيته لكي يجعل أمر اتهامه ـ ببساطة ـ أمراً غير معقول.
العقل الغربي الذائع الصيت، أعني حتى العقل الغربي بالذات الذي اشتهر بالحداقة والفهلوة لا يعرف أصلا أن إسرائيل لا تلجأ الى المطالبة بالمفاوضات لأنها «تريد» أن تتفاهم معنا بل لأنها تعرف ـ مقدماً ـ أنها لم تترك لنا فرصة للتفاهم. بكلمة بسيطة اخرى، العالم مخدوع بالبطاقة الشخصية التي تركتها إسرائيل عند رأس ضحيتها والمتهم البريء يرسله القاضي لحبل المشنقة. وأسوأ ما في الأمر أن هذه اللعبة غير العادلة تتم «بالذات» باسم الإنسانية.
فباسم الإنسانية يطالبنا العالم بأن نقبل إسرائيل.
وباسم الإنسانية يطالبنا العالم بأن «نتفاهم» مع إسرائيل.
العالم يديننا بالعنصرية وينسى في غمرة صراخه أن العنصرية بالذات هي الحجر الوحيد والأساسي في إقامة دولة خاصة باليهود.
هذا النقاش ليس حديثاً سياسياً… لان إسرائيل ـ بالنسبة لي ـ ليست سياسة بل دين نصف متحضر ونصف وثني، ولأني أعتقد أن قضية الشعب الفلسطيني لا تخصه وحده ولا تخص العرب وحدهم بل تخص الإنسانية بأسرها التي تحتاج الى الدفاع عن وحدتها ضد كل فلسفة عنصرية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق