دخول العرب عصر العولمة جاء متأخرا ومقلوبا الى حد كبير , فمع انتهاء الحرب الباردة تشكل نظام عالمي جديد يقوم على الانفتاح الاقتصادي والسياسي للاستفادة من الانفتاح المعلوماتي , ولتحقيق مكاسب اكبر بدأت تتشكل كتل اقتصادية فقامت الوحدة الاوروبية واتحاد دول امريكا اللاتينية , اتفاقية نافتا .. الخ , والحق يقال فان الدول العربية حاولت : الاتحاد العربي , الاتحاد المغاربي , وتفعيل مجلس التعاون الخليجي .. واقامت انتخابات تشريعية في اكثر من اقليم , ولكن هذه المشاريع لم يكتب لها النجاح المطلوب كل لاسبابه , ازداد الامر تفاقما مع (حرب الكويت) فبالاضافة لتعرض المجتمعات العربية لاجتياح كاسح للعولمة وادواتها (سرعة انتقال الخبر ورد الفعل) برزت حاجة للقيادة السعودية باشراك المؤسسة الدينية بالقرار السياسي (وهي ممارسة كانت خاصة ومحلية حتى اللحظة) .. سرعان ما عبرت الحدود (الحاجة لفتوى المؤسسة الدينية) وشكلت تداعيات وردود وتشعبات , فاصبحت (الفتوى) مؤسسة , واصبح لكل حارة عربية شيخها ومرجعها , وبين الاهمال والتعارض والتباين والتشعب , تشكلت محاور وديناميكيات لا بداية لها ولا نهاية . سنعترف لكل فرد او فريق بحقه فيما هاجر اليه فهذا ليس مجال بحثنا .
حرص المسلمون على حفظ وجمع القرآن , ولكن الحديث والسيرة والفتوحات التي حرصوا ايضا على تدوينها وحفظها بقيت في اطار (الجرح والتعديل) و (علم الرجال) , وهنا ايضا سنعترف لكل فرد او فريق بحقه فيما هاجر اليه , فهذه النصوص جميعها مهمة وجزء من التراث والتاريخ , فهذا ليس مجال بحثنا ايضا .
العلوم الأحدث ووسائل البحث والتنقيب (الاركيولوجيا مثلا) تمكنت من اعطاء صورة اكثر دقة في وصف ما حدث (التاريخ) وهي لا تتعارض مع ما نعرفه من خلال نصوصنا التراثية : فمثلا اصبح بالامكان تحديد عمر الآثار المكتشفة , تشكيل صورة ادق للاسلحة التي استخدمتها الجيوش , تشكل طبقات الارض وصلاحيتها او عدم صلاحيتها للزراعة في اي فترة زمنية , تحليل القصائد الشعرية لمعرفة شخصية القائل ووصفة للمعارك , الخطب والمفاوضات بعد وقبل كل حدث , دراسة ما كتبه الطرف الاخر في الصراع ومقارنتهما للوصول الى وصف أدق ...الخ
شبه الجزيرة العربية مساحة واسعة من الارض , فالمسافة بين راس الحد (عمان) وحلب (سوريا) : 2500 كم , قطع هذه المسافة يحتاج الى 100 يوم من السير المتواصل دون توقف بوسيلة النقل الوحيدة المتاحة آنذاك : الجمل (فالماشية والخيل بحاجة الى سقاية يومية اما الجمل فيصبر لأكثر من ستة ايام للوصول الى نقطة السقاية التالية) .. في قلب هذه الجغرافيا الصحراوية يقع (الربع الخالي) وهو منطقة من المستحيل قطعها فما بالك بالعيش والاستقرار فيها .. الامتدادات الاخرى لهذه الصحراء كانت اقل قسوة فنشأت فيها تجمعات اهلية متحركة (البدو الرحل : Nomads) يتنقلون بحثا عن العشب والماء في صراع بقاءهم وماشيتهم , واقيمت مجتمعات شبه مستقرة حول الواحات (يثرب , الطائف) ومراكز التجارة والعبادة (مكه) ولكن هؤلاء قبل الاسلام لم يتركوا اي اثر عمراني فقد كانوا يقطنون الخيام ولم يتركوا رسومات او مخطوطات ايضا .. كما في لغة الاسكيمو الف اسم للثلج , ففي العربية عدد مكافىء للرمل : فالانهار الجافة "وديان" وكل تلة رملية لها اسم وهوية وشخصية ترتبط بذكريات وحنين وشوق , الاثر الواحد الوحيد الذي يشير الى وجود هوية عربية لهؤلاء البدو قبل الاسلام هو كتابة عربية على حجر يشير الى قبر (امرؤ القيس بن عمر "ملك العرب") والذي حدد البحث العلمي انه مات عام 328م .. دون ان نعرف كيف مات (وحيدا , في صراع داخلي , ام في مواجهة مع الفرس)؟
كان لدى الامبراطوريات القديمة اشكاليات مع هذه الصحراء , فمن ناحية ليس لديهم رغبة او جدوى من اجتياحها , ومن ناحية اخرى الحاجة لحماية اطراف امبرطورياتهم من (المجهول) القابع داخل هذه الصحراء .. فأقاموا تحالف مع قاطني المناطق الاكثر استقرارا على حافة هذه الصحراء (الهلال الخصيب) .. فتحالفت (بيزنطة) مع الغساسنة في (سوريا وفلسطين) و(الساسانية : الامبراطورية الفارسية) مع المناذرة (Lakhmids) في العراق .. وهؤلاء قبائل شبه رعوية اكثر استقرارا , فالغساسنة كانوا يقيمون في الجولان في فصل الربيع والشتاء وينتقلون الى الرصافة (سوريا) في الصيف والخريف : وعلاقتهم مع عرب الصحراء (مد وجزر) ما بين صد هجماتهم وارضائهم والتفاهم معهم , ومجتمعات الهلال الخصيب من ناحية اخرى شهدت (مد وجزر) مع الامبراطوريات المسيطرة : ففي القرن الميلادي الثالث استطاعت (الملكة زنوبيا) بالتحالف مع الامبراطور الروماني (Aurelian) ان تمد نفوذها المتمركز حول واحة (تدمر) الى الهلال الخصيب باكمله (وشمل ذلك سهول حوران وعميقا حتى حمير) ويبدو ان العرب (البدو الرحل) استفادوا مما جلبه هذا الامتداد الى نقاط اعمق داخل صحرائهم من خلال الصراع والتفاهم والتعرف اكثر بالآخر , ففي نفس الفترة عاش (امرؤ القيس) .. وفي هذه الفترة وجدت آثار لاكتشاف المعادن "500م" في (الحجاز) وبداية علاقات تجارية بسيطة للصحراء مع الخارج بمبادلة المعادن والماشية والجلود , بالقمح والزيت والنبيذ.
بالاضافة لقسوة الحياة في الصحراء هنالك انعدام مطلق للأمن والقانون والنظام (وحيدا وناقتي في مواجهة العالم) , وللتغلب على الخوف والقلق الناتج عن ذلك تقاطر اهل الصحراء في قبائل , فالقبيلة تقدم للفرد الحماية والأمان وهو يقدم بالمقابل الولاء والمرؤة , ورابطة الدم في القبيلة عامل ثانوي فالانضمام للقبيلة والتخلي عنها مفتوح للجميع .. وكما الخيمة ليست مكان ثابت للسكن وتجمع القبيلة ليس مكان اقامة ثابت لأن القبيلة دائبة الترحل , فقد سكن العرب في بيت الشعر واقامت القبائل في القصيدة , فتجمع المصادر التاريخية ان بروز شاعر في القبيلة كان محط احتفال وبهجة تقام عبر طقوس متنوعة , فالشاعر يحفظ الذاكرة الجماعية للقبيلة ويخلدها في التاريخ , فهو المدافع عن امجادها وبطولاتها والحامي لهذا التاريخ في مواجهة من يبخسونه من شعراء القبائل الاخرى , وبالاضافة لذلك يقدمون للباحث معلومات جغرافية وتاريخية واجتماعية هامة (اطلال الصحراء وجغرافيتها , الوحشة والقسوة وصراع الانسان للبقاء ضمنها , وعلاقة "الرجل بالمرأة" ومكانة كل منهما في مجتمع القبيلة ...الخ) .. بالاضافة للشعراء برز (الاشراف) والشريف فرد من القبيلة يتميز بالشجاعة والمرؤة والذكاء (اكتشاف تواجد الماء والعشب بربط الاسباب بالمسببات والمعلومات) والحكمة (في التفاوض مع القبائل المنافسة سلما او حربا , تحالفا او قطيعة) .. ومع الزمن تشكل بيت الضيافة (خيمة) فمقابل حسن الضيافة والكرم يقدم الضيف المعلومات الضرورية لشريف القبيلة لصنع القرار الاكثر صوابية (ضمن سلوك طبيعي ومريح جدا لطرفي المعادلة : لاحقا وجد الباحثون ان احد اسرار الفتح الاسلامي الذي لم يسبق له مثيل ان العرب لم يقيموا علاقاتهم مع الآخر على اساس الاسرار والنوايا , بل على تحليل ما يقوله الضيف وما يقال عنه , ووزن جدوى ما يقترح ويفكر به) .. ومن سياق هذا الحديث و (التسامر) يتعرف الشريف على الاتجاهات الانسب سلوكا لترحل قبيلته بحثا عن الماء والعشب وامكانيات المخاطرة وفرص التجارة التبادلية لتحقيق اعلى ربح واحتمالات الخطر لتجنبها .. وقسوة الحياة اوجدت (الفروسية) فلكي يستمر الفرد والقبيلة بالبقاء يتدرب الجميع على تحمل المشقة (السفر والترحال) والخشونة (طبيعة العيش في الصحراء) واستعمال السيف والرمح وترويض وركوب الخيل لمنازلة المتنافسين في صراع البقاء المفروض ... وهذا غيظ من فيض يقدمه الاتجاه الحديث (New Pre-respective) في البحث (وهو اكثر انصافا للمسلمين من انصافهم انفسهم , وبالتأكيد قادر على تقويض ما الحقته الاتجاهات الاستشراقية العنصرية من تشويه) ؟ .. (فبيض الهند) وتسمية السيف بالمهند تعود الى كون افضل السيوف كانت تستورد من (الهند) وتتبع هذا المسار (التجاري) بمعطيات ذلك الزمان يضع العلاقات بين مجتمعات العالم القديم في اطار اكثر دقة , وفي مجال آخر بأمكاننا ان نشكل صورة ادق للتاريخ : فالسيف كان مستقيم (غير منحني) ويعلق على الكتف ويحمل على الظهر , وحامله متطوع ويتمتع بديناميكية حركة تفوق مقاتلي جيوش الامبراطوريات المنافسة (فلا يوجد لباس موحد , ويطلب من كل (متطوع) اصطحاب مدين (2 كغم) من القمح ليأكل , فان لم يحتاجها نثرها في الارض "ليحصدها" فرد آخر من (القبيلة) التي وسع الاسلام مفهومها وهذبه لتصبح (أمة) .. وهو ايضا منفطر على (الفروسية) ومواجهة الصعاب وتحمل المشقة , ويضع ربح الآخرة فوق ربح الدنيا "توازن دون مقايضة" .. والا فكيف نفسر انتصارات الفتح الاسلامي على جيوش تفوقها عددا وعدة؟)
يرى الباحثون ان المسلمين الأوائل ربطوا الاسباب بالمسببات واستفادوا من ذلك الاستفادة القصوى , فقبلوا الربح (غزوة بدر) والخسارة (غزوة احد) والتسوية (غزوة الخندق وصلح الحديبية) .. ووضعوا الشخص المناسب في المكان المناسب , فأبرز اعلام الفتح الاسلامي : خالد بن الوليد (اكتسب خبرة في غزوة مؤته) وعمرو بن العاص (اكتسب خبرة في غزوة تبوك) .. والأهم من كل ذلك ايمانهم بسمو الرسالة التي يحملونها (فتاريخ الامبراطوريات القديمة حافل بانقلابات القادة الذين تم عزلهم وثوراتهم التي قوضت تلك الامبراطوريات : على العكس تماما من تصرف خالد بن الوليد عندما تم استبداله بأبي عبيدة) .. ويرجع الباحثون استمرار الاسلام وانتشاره الى (حروب الردة) : فبعد ان تمكن الرسول (ص) خلال حياته من جمع قبائل الجزيرة في (أمة) - لاحظ ان الصفات المنسوبة للرسول (ص) هي صفات (الشريف) بأرفع وأتم مستوى - كانت (الردة) تهديد خطير لهذا المشروع , فأصبح الهم الاول للمركز (المدينة) وقف هذا الانهيار بأي ثمن "فبعض القبائل ارتدت لاسباب غير دينية : رفض ضريبة الخراج المستحقة على كافة المسلمين" , وسجلت نقطة انعطاف هامة (بداية تطلع المسلمين الى ما بعد الجزيرة) عندما اخمد (خالد بن الوليد) ردة (بنو حنيفة) فوجد (بنو شيبان) يخوضون منازلة مع (الجيش الفارسي) المرابط على حدود الجزيرة مع العراق فقدم لهم اسنادا وترجيحا .. سوف تمتد الفتوحات على مساحة اضعاف اضعاف مساحة الجزيرة , والسؤال الذي حير الباحثين حتى وقت قريب : ما هو نظام الاتصال فيما بينهم الاسرع والاكثر فاعلية من افضل واسرع وسيلة انتقال (الجمل) في حينه؟
نظام الاتصال هذا كل ما ذكر اعلاه : فكل مسلم يرى في نفسه الفرد في القبيلة وشريفها , الضيف والمضيف , الجندي والقائد , المرسل والمستقبل والوحيد وناقته في مواجهة العالم (صاحب رسالة) في آن واحد .. (فكان اقلنا شأنا يحسم اكثر الامور اهمية) .. وهذا سر النجاح في عصر العولمة (فأنت ضيف في هذه الخيمة "الانترنت" تطرش ما عندك من اخبار وافكار وما (انت) , وانت شريف (الامة) تستمع جيدا وتحترم الآخرين (حسن الضيافة والكرم) ثم تستعمل ذكائك وحكمتك في تحليلها وفرز الصالح لتنفع به لقبيلتك , وتجنبهم الطالح منها)
مدونة جيدة
ردحذفبالتوفيق