يتذكر والدي ان عائلتنا "البدوية" حطت رحالها في الاردن أبان وصول الخميني للسلطة فسمع لأول مرة نشيدا خارجا من مئذنة الجامع (ظهر الدين المؤيد .. بظهور الهادي أحمد .. آية الله الخميني .. نوره في المشرقين...) ؟! وذكر ان هنالك هالة من الابتهاج تملأ الفضاء وتتقطر من الالسنة والاقلام , وان مجتمع المسجد بسط السجادة لجمع التبرعات لشراء تذاكر سفر للوفد المهنيء
سأولد ويصبح عمري عشر سنوات عندما اصطحبني والدي في زيارة للعاصمة الاردنية عمان أبان احتلال العراق للكويت , استمعنا الى كلمة جماهيرية لياسر عرفات في صالة رياضية حاشدة ومكنني والدي من مصافحته بعدها (الكلمات والنظرة المباشرة للرجل تشعرك انه يختزن محيطا من القلق يحاول ان يخفيه بكبرياء مصطنع) .. وفي مكان آخر في المدينة كان يجتمع قادة الجماهير في العالم العربي آنذاك (الترابي , الغنوشي , الأحمر , مدني , بلحاج ...الخ) في الطريق الى طهران ؟! .. في الشارع كانت حمى محركها الأساسي ذلك الشعور بأن انعطافة كونية على وشك الحدوث (تتجاوز المتعلق السياسي و "الواقعية التاريخية" للحدث) .. وطلب هؤلاء القادة "وما يمثلون" من طهران ان (ترجح الكفة) كان في حينها اكثر من واقعي وممكن ؟!
ترد الدراسات الميثيولوجية أصل فكرة "المهدي" الى (قابيل وهابيل) لحضورها القوي في الديانات الثلاث , ولا شك ان المذهب الشيعي الاسلامي في اطوار تشكله ومأسسته وتفاعله مع ثقافات العالم القديم والحديث عولم الفكرة وأنسنها (سبكا وصقلا) , الصياغة الصفوية والتأثير الزرادشتي موجود (يخضع لانتقائية مضخمة في الخطاب القائم : لمتعلق ايران السياسي) لكن ذلك لا يقارن بقوة التأثر بالبوذية (المعاناة "duhkha" , دروس الروح "anatman" , الفناء "impermanence")
بالنسبة لعامة المسلمين (بمن فيهم الشيعة) للتاريخ اسباب ومسببات (اتصال وانفصال) ومنحنيات صعود وهبوط ونقاط قمة وقاع , أما بالنسبة للمؤمن الشيعي (الايمان خاص بالفرد) فان استشهاد الحسين نقطة انعطاف في تاريخ البشرية جمعاء (محدد للاخلاق والسلوك وتفسير التاريخ وقراءة كتاب الكون والوجود) والمحور الاساس (الولاء لأهل البيت وانتظار عودة الامام الغائب "المهدي") وهو اتجاه دفاعي وسلمي صرف : لا يوجد اختلافات جذرية بين كافة المصادر (وما اكثرها) حول سيرة (الحسين) فالفروق ثانوية ولا تكاد تذكر , فعالميا (باحتواء السنة والشيعة وكافة المسلمين) ما يميز شخصية الحسين : الصدق والاخلاص , ايمانه باخلاص أهل الكوفة رغم تخليهم عنه مع علمه بخطورة ذلك , الحب والتسامح الذي اظهره لخصومه رغم لا اخلاقية ممارستهم وعنفهم تجاهه (فصلب المسيح يقع دون ذلك : انه يوم العاشر من محرم , اليوم المقدر لهم ان يموتوا فيه , لبلوغ الطمأنينة والسلام , اختاروا الطريق الذي كان سيختاره محمد (ص) , مد الحسين لخصومه يدا للمصالحة والاتفاق لم تجد مصافحا "عنجهية جعلت بعضا من جند خصومه ينضمون اليه" , منعوا عنهم الماء وحالوا بينهم ونهر الفرات وقتلوا كل من حاول ان يروي عطشه , تقدم الحسين وبين يديه طفله الذي يموت عطشا فقتلوه بين يديه فصلى الحسين لكل من ماتوا ذلك اليوم ثم توجه لخصومه برجاء التوقف عن الذبح ...)
في أوج شهرته طلب الممثل المصري (نور الشريف) من منتجي أعماله تجسيد (الحسين) في عمل والمقابل (ان يعتزل التمثيل) , اما علي شريعتي الذي برع في حقن الرموز التاريخية والشعائر الدينية بثورية معاصرة أصيلة , ربما امام هذا الكم الهائل من الترميز الانساني للحسين اختار ان يكتب عن (حر) وهو احد القادة الذين انتقلوا الى صف الحسين يوم عاشوراء وكان اول من استشهد القدر يلعب لعبته في مصنع الكون منتجا ما لانهاية له من الآيات "حجارة , انهار , اشجار , حيوانات , حشرات , بشر" تثير التأمل والتفكير واحيانا الضحك .. يكتب شعرا ويرسم لوحة , يبني الكعبة وسور الصين , كواكب تدور حول الشمس ومن بين الشهداء اختار : حر .. القصة قصة اختيار : اهم معنى للكينونة , الخيار هنا بين الحق والباطل , العدالة والظلم , والثمن الحياة ؟ .. الموقف ذو حساسية استثنائية, المؤلف لم يضع بطل القصة في الوسط بل على رأس الجانب المعتدي واضعا المخرج في ورطة : كيف سننقل هذه الشخصية للطرف الآخر "سبارتكوس وقيصر : يجعلها قبلية وطبقية" , جرب ايضا "ابراهيم والنمرود , موسى وفرعون , عيسى ويهوذا" دون جدوى .. هؤلاء ذوي هالة مقدسة لدى معظم الناس .. اما قصتنا فهدفها تعليمي وتوجيهي "تعزيز الارادة بالتحول نحو الافضل" .. التراث الاسلامي مليء بالشخصيات ذات الطبيعة الاشكالية منذ (هابيل وقابيل) وباستمرارية تاريخية وبتعدد للأوجه , وانتهى الامر ببطل قصتنا الى ان يختار بين تشكيل حاد لكلا الاتجاهين .. من الناحية التاريخية ما هو مهم الدور الذي يلعبه الشخص وليس الاسم "الذي لا يد له في اختياره" , في قصتنا البطل سمته امه (حر) وكأنها استشرقت الدور الذي سيلعبه .. بينما كان يلفظ انفاسه الاخيرة قال له الحسين "يا حر , بارك الله فيك , انت حر في الدنيا والآخرة , تماما كما ارادت امك" .. العمل الفريد الذي قام به حر يميز الانسان عن باقي الكائنات : المسؤولية تجاه الله والناس والنفس : بدون الاختيار انت وجود بلا معنى , وبطل قصتنا وجد بالولادة واصبح ذو معنى بالاختيار) .. لاكمال الصورة يصف شريعتي الطرف "الوجودي" الآخر وجوه بلا معنى , رجال بلا نفوس , بشر بلا قلوب , لا يعرفون لماذا يصرخون , ومن يقاتلون..) ويضع قول الامام الصادق في الموقع الانساني الصحيح (كل الأيام عاشوراء وكل الاماكن كربلاء وكل الأشهر محرم .. وكل انسان حر)
نجاة زين العابدين بن (الحسين) .. وصولا الى الامام الحادي عشر (حسن العسكري) الذي توفي عام (874م) والاختلاف على الامام الثاني عشر (محمد ابن الحسن) : اختفاءه بعد حضوره يوم وفاة والده , والتواصل (البابية) حتى وفاة الباب الرابع (941م) وانتقال التواصل معه الى (الصلوات الطهرانية, وعالم الاحلام والرموز).. في اتون ذلك بدأت ميثيوجيا المهدي بالتشكل والتراكم .. من الطبيعي ان تتقاطع مع ثقافات أخرى وتعلق بها اسقاطات اجتماعية وتاريخية والمهم هو اعادتها الى جذرها (الحسين) اذا كنا نتحدث عن توفيقية مذهبية وحوار اديان وحضارات (الضروري ضرورة الماء والهواء للعالم الاسلامي المتفاقم الازمات والمتصارع على تحديد خط البداية والنهاية, والذي لا يفتأ يولد ردود فعل على كل مشكلة تعقد امكانية الحل) فالسؤال من أين نبدأ ؟!
سألقي بعض الشذرات (الغير ودية ربما) لعل وعسى :
1)احداث (11 سبتمبر 2001) والتي في سياق ما تبعها "الحرب على الارهاب" حورت ميثيولوجيا (اليوم الآخر) لدى اليمين المسيحي في الغرب عموما (وامريكا خصوصا) من اعتبار الاتحاد السوفيتي المسيح الدجال (امبراطورية الشر : على حد تعبير الرئيس رونالد ريغن) الى اعتبار الاسلام "المسيح الدجال" ومع ان النبوءة تتحقق بذبح كافة اليهود في ذلك اليوم , فان تمكين اليهود من السيطرة والاحتشاد في مدينة القدس "واعادة بناء الهيكل" هو واجب مقدس يستحق الأولوية في الدعم المادي والسياسي , لقي هذا التيار شعبية واسعة مسكوت عنها اثناء رئاسة بوش (وزنهم الانتخابي) .. وعلى مشارف الانتخابات الامريكية الاخيرة حصل المرشح الجمهوري (جون مكين) على تأييد هذا التيار (الأب هاجي : الذي يرى في هتلر رسولا الهيا بعث لتنفيذ الهولوكست لتذكير اليهود بالمكان الصحيح الذي يجب ان يحتشدوا فيه؟) .. ولكن حملة اوباما التي ابعدته اولا عن كنيسته (الشخصية) التي ترى السود كضحية مستمرة وجهت ضربة علنية كاسحة لهذا التيار "يسمى هنا المسيحية الصهيونية" اضطرت مكين للأبتعاد عن هاجي لانقاذ ما يمكن انقاضه .. اطلق الخميني على امريكا اسم "الشيطان الاكبر" وسمى عدة شياطين صغار , في المقابل استخدمت الادارة الامريكية "وليس الشعب" الالاف من ابناء الامة الاسلامية كوقود لمعارك حربها الباردة مع الاتحاد السوفيتي على كافة خطوط التماس المرئية وغير المرئية على ارضية مشتركة : محاربة جمهورية الشر , تطور المشروع الى ظاهرة اجرامية لا اخلاقية (القاعدة) : لا اخلاقية في تبريرها او عدم الاقتناع بواجب اجتثاثها
2) خطاب العنف من الخميني الى بن لادن احدث ضررا دمويا بصورة الاسلام في الغرب , ببساطة لعدم وجود وعي اسلامي بطبيعة الغرب (الديمقراطية , دولة المؤسسات , تكافؤ الفرص) فمكن المعنيين (الادارة السياسية المرتبطة الى حد كبير بمصالح عملاقة : صناعة الحرب , الاعلام , النفط) من بلورة صورة معادية للاسلام "hostile image" وفاعليتها بالاساس محلية (لدينا خلافات : الاجهاض , حكم الاعدام , نسبة الضرائب والفائدة البنكية .. ولكن هنالك عالم آخر ما وراء البحار يقف صفا موحدا خلف الخميني .. بن لادن) .. والاشد مرارة ان هذه التقنية بدأت تنشط لتفكيك التعايش الداخلي (قبطي - مسلم , شيعي - سني)؟
3) اخلاقية المعرفة وانفتاحها : علي شريعتي وباقر الصدر أسسا لمشروع قطيعة واتصال , يمكن اعتبارهما "اليسار الاصيل" في العالم الاسلامي الذي "أسلم" مفهوم الثورة الدائمة (المزدهرة للآن في امريكا اللاتينية واجزاء من اسيا وافريقيا , وذات الحضور الفاعل في اليسار الغربي : حركة السلام وحركة حماية البيئة ..) فالعديد من "البعثيين" على وعي ب "فلسفتنا واقتصادنا" كما انه تم تحنيط شريعتي في ايران ولكن الرجل ذو تأثير عميق وملحوظ في افغانستان وباكستان وبنغلادش وحلقات حوار الاديان في الغرب , وهذا في اطار وعيه ونقده "استمراريته" , أماالتأثير الاكثر فاعلية لتمزيق "الصورة المعادية : hostile image" باعتقادي (سيد حسين ناصر) فالرجل وصل قمة في تصويب صورة الاسلام في الغرب لم يصلها احد بعد
4) ادوارد سعيد رائد وذو حضور مميز في طرح اشكالية الاسلام والغرب "الاستشراق" ولكن للرجل تراث حي ومستمر , فالتاريخ لم يتوقف عند "الاستشراق" بل اتخد انعطافات حادة ادركها سعيد في كتاباته الاخيرة فقراءة ووعي "الاستشراق" ضرورية ولكن غير كافية , في المجال السياسي يبرز بلا منازع (ياسر عرفات) وما زال له حضوره رغم الانقلاب على تراث الرجل واستمرارية دفنه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق